لم يعرف الإعلام المصري شيئًا عن جهود إنشاء وتطوير شبكة المعلومات الدولية «الإنترنت» منذ أواخر الخمسينيات وحتى منتصف التسعينيات في القرن
العشرين، عندما خرجت المحاولات من الفضاء الأمريكي لتصبح حقيقة واقعة لها تأثيرها الإيجابي والسلبي على الإعلام الجماهيري. والحق أن الإعلام المصري كان في قلب التحولات الجديدة لكنه لم يستفد من إيجابياتها أو يركب موجتها ولم ينجح في تحجيم سلبياتها!
كانت التأثيرات الإيجابية هي الأسبق، حيث أزاح البريد الإلكتروني عن كاهل المؤسسات الإعلامية والصحفية الجزء الأكبر من فاتورة التليفونات والفاكس الدولية بين المراكز الإعلامية ومراسليها في مختلف العواصم، وضغط زمن إنتاج الصحيفة لأن النص والصورة يصلان جاهزين دون حاجة إلى تنضيد أو إعادة تعامل مع الصور.
بعد ذلك بدأت التأثيرات السلبية في الظهور، حيث أصبح من الممكن قراءة الأخبار على شاشة الكمبيوتر بدلاً من شراء الجريدة الورقية أو انتظار نشرات التليفزيون. بعد ذلك جاء تحدي الهواتف الذكية وقد حمل معه في بدايات الألفية الثالثة تطبيقات التواصل الاجتماعي، مثل الفيسبوك وتويتر.
وبهذا التطور صار الإعلام الجماهيري الخطي بين منشيء الرسالة الإعلامية ومستقبلها تحت تهديد إعلام المواطن الذي يتساوى فيه عدد منشئي الرسائل مع عدد مستقبليها.
أمام هذا التحدي كان الإعلام العالمي في البلاد الديمقراطية لديه من الحيوية ما يجعله يعمل في اتجاهين:
الأول: الاستفادة من الوسائل الجديدة ؛ فشرع في بناء المواقع الإلكترونية الموازية لمطبوعات المؤسسة أو قنواتها التليفزيونية، وأنشز المجموعات البريدية التي يرسل من خلالها محتواه أو تنويهات عنه لأعداد كبيرة من مستخدمي البريد الإلكتروني، واستمر في التطور باستخدام منصات التواصل الاجتماعي ورنتاج الأشكال الصحفية المبتكرة مثل الفيديوهات القصيرة.
الثاني: البحث عن مساحة خاصة بالصحافة الورقية، وكان الحل هو التوسع في نشر القصص المعمقة والتحقيقات الاستقصائية، وهي ليست ابتكارًا جديدًا، لكن التوسع فيها هو الجيد. وقد استفادت الصحافة الاستقصائية تحديدًا من عصر الشبكات وسخرته في تعاون عدة صحف على إنتاج قصة واحدة يتبادل فيها صحفيوها المعلومات عن رموز الفساد في بلدانهم، الأمر الذي يمكن أن يساهم في كشف شبكاته الدولية، ومن أخطر وأهم القصص التي تم بناؤها بهذا التعاون هي قضية وثائق بنما التي اشتركت في كشفها مائة صحيفة دولية.
اعتبار الصحيفة الورقية فضاءً للقصة المعمقة كان اجتهادًا محمودًا، لكن الممارسة أثبتت أن المنصات الإلكترونية يمكنها كذلك أن تكون مجالًا للقصص المعمقة. وقد أثبتت مواقع عربية مثل مدى مصر ومنشور ودرج هذه الإمكانية. ربما كان من أسباب هذا النجاح هو غياب هذا النوع من الموضوعات عن الصحافة الورقية المكممة، التي مرت عليها التحولات والمحاولات وهي في أسوأ حالاتها. وقد وجدت هذه الصحف العاجزة عن إنتاج القصص المعمقة نفسها في موقف دفاع بدأت بمواجهته ببناء كذبة واحدة غير معمقة، ترفع راية الاستسلام أمام التكنولوجيا الجديدة.
يتكرر الحديث عن القضاء والقدر وتحولات الزمن التي أتت بالتكنولوجيا الجديدة لتنسف تاريخًا من التألق الصحفي. وهذه قصة كاذبة، لسببين:
السبب الأول أن تحولات الزمن اقتطعت من الصحافة الغربية نصف قرائها بينما اقتطعت من المصرية تسعين بالمذة من قرائها. هذه الأربعين في المئة مسئول عنها رداءة المحتوي لأسباب سياسية ومهنية، وغني عن القول طبعًا أن الأسباب المهنية هي في جوهرها سياسية.
السبب الثاني: أن هذه الموسسات التي تشكو جور التكنولوجيا لم تكن بعيدة عن تلك التكنولوجيا، وإذا ما راجعنا ما أنفقته المؤسسات المصرية على مواقعها سنجده يفوق ما أنفقته نظيراتها الأمريكية والإنجليزية، دون أن تحقق نجاحًا يذكر.
الغريب أن عقول الدولة المدبرة، تدفع باتجاه تحويل الصحافة المصرية أو جزء كبير منها على الأقل إلى الإلكتروني، ليست منتبهة إلي أن الإلكتروني ليس اختراعًا سيتم تجريبه للمرة الأولي، فهو موجود منذ البداية.