ستستمع إلى كل هذه الحكايات، وسوف تضطر لتصديقها جميعاً، لأن أحداً لم يرجع من المتاهة ليحكي بالضبط ما حدث.

Marc Chagall
Marc Chagall

تأمل العراف، الذى صار مقربًا، كف مولاه وردها فزعا.

سأله الأمير عما رأى. بكى العراف وباس الأرض بين يدي مولاه.

قال الأمير: لا تخف، أنت لا تكتب المسطور، بل تقرأه.

أجاب العراف بصوت متهدج: ما أراه، يامولاى، فظيع، وبكائى فَرَقُُ عليك وليس خوفا منك.

قال الأمير: فماذا رأيت؟

قال العراف: خطر يا مولاى لن يُبطله سحر السحرة.

قال الأمير نافد الصبر: لا طاقة بي اليوم للأحاجى.. تكلم وإلا  أمرت بجز رقبتك.

قال العراف مجهشًا: سيولد يا مولاى العشق فى قلبين لرجل وامرأة من رعاياك. وعلى أيديهما يزول عرشك ويقوم عرش الحب.

صار غضب الأمير خوفًا، فأوقف مراوح العبيد بدفعة متوترة من يديه، وأخذ يقطع البهو رائحا غاديا، يدق راحة يده اليسرى بقبضة يمناه، والعراف قائم مطأطيء الرأس. ثم عاد الأمير إلى جلسته، وسأل عرافه بوجل جاهد لإخفائه: وكيف نكتشف هذا العشق؟

قال العراف: عبدك يامولاى لا تخفى عليه بذرة حب ولو فى عين ذئبة.

وقال الأمير: إذن، تدرب فرقة من عيوننا تراقب هذا الأمر، والسيف والنطع جاهزان لكل من يثبت تورطه فى المؤامرة.

 

على هذا النحو ستصلك الواقعة دائما. كما لو كان كل سكان المدينة من شهودها. وعند هذا الحد ينتهى الاتفاق الصارم ويبدأ التشعب الذى يصل إلى حد البلبلة فى روايات الرواة لقصة “المتاهة” التى تقف بشموخ ورهبة عند حدود المدينة.

البعض يقول إن الأمير تراجع من تلقاء نفسه عن قرار القتل وأمر ببناء المتاهة لاجتناب خطر العشاق دون تلويث ثوب ملكه بدمائهم. والبعض بدافع من التحيز للعراف يقول إنه هو الذى أشار على الأمير ببنائها، بينما يؤكد البعض أنه تواطأ مع الأميرة الشابة التي لا تحب من الدماء إلا دم الحيض ودم الغشاء.

وتؤكد رواية رابعة أن وزير المدينة كان عاشقًا، وعندما كلفه الأمير بتنفيذ الإعدام فى أول عاشقين حملهما بعيدًا وتركهما مع قربة ماء وكمية كبيرة من اللحم المقدد والفاكهة المجففة، وأخذ فى كل مرة يفعل هذا حتى صار عدد العشاق أكبر من أن يخفى على عيون الأمير ففكر فى بناء المتاهة صونًا لرقبته وحمايةً للعشاق.

وهناك رواية خامسة تعترف بقصة الأمير فى بدايتها، ولكنها تؤكد أن المتاهة عمل من إبداع خيال العشاق المبعدين أنفسهم، وهناك من ينكرون كل هذه الروايات ويؤكدون أن عمر “المتاهة” من عمر المدينة ذاتها، وأن آمر الجن فكر فى بنائها كحيلة أخيرة فى مواجهة الملكة العنيدة. وقد تسمع من يهمس سرًا بحكاية تحاول المدينة نسيانها بإصرار لا يساويه إلا إصرار الحكاية ذاتها على البقاء.

يرسمون لك ببالغ الحسرة صورة مدينة حنون، تمنح سكانها لذة مترفعة عن الدناءة، تتسم بتناسق ونبالة قصوى وإشباع لا تنقصه السكينة. عندما كانت المدينة في كنف إلهتي العاطفة واللذة معا، الى أن جاء اليوم الذى نظرت فيه  إلهة اللذة إلى وجهها فى مرآه الرمل، فرأت كم هو حوشي وداعر، وتطلعت إلى وجه إلهة العاطفة الهادئ بحسد فرأته يزداد جمالاً كلما تزايد حسدها. وهكذا دبَّرت لها حادث مرور أثناء جولتها بالمدينة (وكانتا تتبادلان النزول اليها) وقد نجت الإلهة الخجول من الحادث، لكنها خافت مؤامرة جديدة، فأمرت بإنشاء المتاهة، تحميها من حسد إلهة اللذة وتتطلع فيها بحزن إلى يوم تعود فيه إلى مدينتها المحبوبة التى تحولت فيها فضائل المحبة الى عبودية خبيثة للذة حارقة تثيرها الإلهة الشبقة دون رحمة.

على أن تصميم المتاهة من الداخل، ليس أقل اثارة للحيرة من قصص انشائها. وكذلك مصير العشاق الذين تبتلعهم الى اليوم، ولهذا تجد سكان المدينة اذا اجتمعوا، أو اذا اختلى أحدهم بنفسه يتفرغون لمحاولة تصور ما يمكن أن تكون عليه المتاهة.

البعض يقول إنها مجرد مجموعة متشابكة من الممرات تضم عددًا لا نهائيًا من الأبواب الوهمية، يظل العاشق يدور بينها بحثًا عن معشوقه ليجد نفسه فى كل مرة فى النقطة ذاتها حتى يجف كشجرة من الجوع والعطش.

وستجد من يصف لك النعيم الذي يلقاه عشاق المتاهة في عدد من الغرف لا يُحصى. يعدد لك نفائس ما تحويه من تحف وحشيات وأسرة، وقد خُصِصت كل منها لعمل من أعمال اللذة، فتجد غرفًا للنظرة، وغرفًا للابتسامة، وغرفًا للمسة، وغرفًا للخمشة، وغرفًا للتقبيل، وغرفًا للضم.

ويستنكر البعض هذه الرؤية التى تقف بالمتاهة عند صورة المدينة ذاتها، ويؤكد هؤلاء أن الرجال والنساء فى المتاهة يجتمعون أزواجًا فى ممارسات حنون لا يبقى معها عطش أو جوع، حيث تسبح الأرواح فى ملكوت العشق نظيفة، خفيفة، بلا نزو زلق أو رائحة عرق كما فى المدينة.

وستجد من يسخر من هذه الصورة مؤكدًا أن ممارسة اللذة فى المتاهة تحظى بحرية لا تحظى بها فى المدينة، دون ملل من نساء، الدميمة فيهن تفوق فى جمالها أجمل امرأة فى المدينة بسبعين ألف مرة وأكثر. يتزايد جمال الواحدة منهن بإدامة النظر اليها، فتتخلق فيها فى كل لحظة الصورة التي يشتهيها الناظر الغارق فى جمالها، بينما تتوالى فى قلبه الصور كما تتزاحم آمال النجاة فى قلب المشرف على الغرق.

يتأسف البعض على مصائر المبعدين فى مكان لا ينالون فيه الا ظمأ التيه، بينما يؤكد آخرون أن المتاهة، بعكس عزلتها البادية، تضم أنفاقًا وسراديب سرية تتدفق منها العربات التى تحمل الفاكهة والطعام من كل لون، حيث يؤكد البعض أنها تتصل بالمحلمة، ويقطع آخرون بأنها ترتبط بمدينة العشق التى لجأ اليها الوزير بعد أن افتضح أمره.

وسيقسم لك المعمرون أنهم رأوا المتاهة عندما لم تكن على هذا القرب من المدينة، ويقول بعضهم إن المدينة توسعت حتى اقتربت منها، ويتمسك آخرون بأن حدود المدينة هي نفس الحدود التى كانت فى صباه، مؤكدًا أن المتاهة هي التي تقترب، وستواصل الاقتراب والضغط على المدينة حتى لا يبقى فى النهاية إلا هي والمحلمة.

ستستمع الى كل هذه الحكايات، وسوف تضطر لتصديقها جميعا، لأن أحدا لم يرجع من المتاهة ليحكى بالضبط  ماحدث.

ـــــــــــــ

من «مدينة اللذة»