عند رحيل محمود درويش قرأنا وشاهدنا وسمعنا كل ما من شأنه أن يزيده نأياً واغتراباً عنا وعن نفسه. كلمات الوداع على قبره الذي أقيم على عجل في رام الله، قطعة الأرض التي هي مختصر المختصر من الوطن الفلسطيني، لا تشبه درويش، كلمات المودعين على ما بها من نيات حسنة واصلت نفيه، وعبَّر أصحابها عن ألمهم لغياب محمود آخر غير ذلك الذي أراد أن يكونه. وهذا هو الموت على أية حال؛ فحتى الذين يأخذون فرصتهم في العيش مثلما يريدون، يتصرف بهم الأحياء كما يحلو لهم عند موتهم، درويش كان موته اتساقاً مع حياته، كان رغم أنفه رمزاً أكثر، إنسانًا أقل.
لم يوجد في تاريخ الشعر، شاعر نزاع إلى إنسانيته محروم منها، كما كان درويش.
مبكراً جداً رفض ما وصفه بـ “الحب القاسي” من النقاد العرب لشعره وشعر زملائه من شعراء فلسطين، مطالباً بمعاملة أقل عاطفية، ووضعهم في مكانهم بوصفهم جزءاً من حركة الشعر العربي. قد نرى في هذا نزاهة مبدع لم يدوخه المديح، وأدرك مبكراً بؤس اتكاء القصيدة على أي شيء وأية قيمة من خارجها، وقد نراها نزاهة شاب لم تسكره الأسطرة، ولم يستنم في سرير الرمز. لكنه أيضاً كان مطلباً شخصياً بسيطاً لصالح محمود درويش الإنسان.
كان قاسياً أن نصادر النساء من قصائده، شهقة الإعجاب، لمسة الحب، ألم المفاصل، علبة الدواء، حفنة الزعتر، والسنبلة، لنحولها جميعاً إلى رموز فلسطينية.
والأقسى من كل المصادرات النسائية، كان مصادرة أمه، التي هتف الكثيرون دهشة عندما رأوا صورتها: لمحمود أم غير فلسطين؟!
جزء من صدمتنا في رحيل درويش، أنه رق في وعينا، فكأنما شعر ولا شاعر. درويش بالنسبة لنا فكرة، طيف، ونفحة إلهية جاءت من أجل قضية عادلة، ولا يمكن أن يكون بشرًا اندفع ذات يوم من بين فخذي امرأة غارقًا في الدم، مطوقًا بحبل سري.
البعض كان يفضل أن تستمر هذه النفحة إلى الأبد، وإن كان لا بد من نهاية فسوف يتبدد الشاعر في الكون، بلا جثمان يوارى الثرى، لكن الذي دفنوه في رام الله، المخطط الإلكتروني لوطن أصغر من قصيدة رثاء، أثبت أن الشاعر كان أرضيًا.
محمود الأرضي، هو الثاني في سلسلة بطن الست حورية، ومهما كانت قيمته عندنا فهو الثاني في الأسرة، لا تكنى الأم به، بل بالكبير أحمد.
لم ينجب محمود سوى القصائد، وراقنا أن يكون بلا أهل من لحم أيضاً. لم يعد يهمنا أن نعرف شيئاً عن آلام أمه لحظة ولادته، رغم أن لدى كل منا قصصاً عن لحظته نقلها إليه الآخرون؛ هل حل سهلاً أم اقترب بحاضنته من الموت قبل أن ينفصل عن جسدها؟
هل كان وديعاً أم دائم البكاء، هل قاست أسرته في إطعامه، هل دللته أو ربته تربية قاسية؟
ليس لمحمود المولود والمربى في أحلامنا هذا التاريخ الأرضي، ولذلك قامت القيامة لأنه زار حيفا وبكى على صدر أمه. طوال حياته لم يفكر أحد بدرويش بوصفه إنساناً له أم يحن إليها وتقلق عليه، وله أخوة من حقهم أن يستشيروه في ألوان بدلات عرسهم وأخوات يحق لهن أن يستشرنه في العريس، أو يتقوين بمسكة يده على فراش الولادة.
«أنتم بتعرفوه أكثر مننا، عاش معكم أكثر مما عاش معنا» هكذا قالت أم أحمد باختصار لمراسل البي بي سي، وقد عادت إلى الحياة بمناسبة موت ابنها.
كان أكثر ما هزني، حديثها الذي انفردت به جريدة ‘الشرق الأوسط’ وصارت مهمتي منذ عودتها إزاحة الحشود للتطلع إليها: ماذا تفعل، ماذا تقول، هي التي كادت تصبح أسطورة، يأتي المصورون إليها لكي يصوروا «خبز أمي» الذي يحن إليه محمود، وكأن السر في الخبز!
لم يحمل أحدهم من رحلته إلى رام الله إلى درويش رغيفًا مما خبزت أمه. كانوا يعودون بالصور إلى صحفهم ومحطاتهم التليفزيونية. قالت للشرق الأوسط: “هم يفكرون أنني أخبز لهم لكي يصوروا”!
محمود الابن كان صغيراً على الموت. يظل الإنسان شاباً طالما بقيت أمه حية، تخجل منه الشيخوخة، ويخجل هو من الموت قبلها، لكن يحدث أحياناً أن يقع الاثنان ضحية قسوة غير مبررة.
رأيت في بعض أصدقائي هذا الوضع المعكوس المخالف للمستقر في وجدان البشر. أقسى الوداع وداع الكبير للصغير، يتوقف دبيب الحياة فيمن أخطأه الموت، تنسد قنوات الدمع. والدمع هو أكثر المخلوقات حنانًا ورحمة في ظروف الموت.
الدمع بشرى، والقسوة هي الأقسى والأبلغ حتى من شعر درويش.
لم يكن محمود في حضن أمه كل يوم، لكن كان لديها دائمًا الأمل في لقاء خاطف أو زيارة للصوت عبر الهاتف.
قالت أم أحمد: ليس بعد الحزن عليه حزن.
ولن تخبز بعد اليوم أرغفة وهي تفكر فيه، فقد اتسعت المسافة بين الوطن والمنفى.
لا يمكن أن يبقى خبزها طازجاً، بعد أن دفن الناس شاعرهم ودفنت ابنها، لكنها نثرت فوقه حفنة من تراب الجليل الأحن عليه من أي تراب، وكتبت بذلك قصيدتها الأخيرة.
ـــــــ
من «ذهب وزجاج»