قصتان قبل الفيلم:
القصة الأولى: أدبية للألماني باتريك زوسكيند بعنوان «هوس العمق» وهي ببساطة عن فنانة تشكيلية شابة تقيم معرضها الأول، ومن سوء طالعها يزور المعرض ناقد فني كبير، يطالع اللوحات ويومئ بتعال متمتمًا: «فنانة واعدة، ينقصها بعض العمق».
ويصبح هذا التعليق العابر أساس كل الأخبار والتقارير التي تنشر أو تذاع عن المعرض، حتى بدأ الجيران يشيرون إليها بـ «فنانة واعدة ينقصها بعض العمق» فأصيبت الفنانة باكتئاب، وأغلقت غرفتها على نفسها، وبعد أيام من العزلة الحزينة قررت التخلص من حياتها قفزًا من الشباك.
القصة الثانية: تخصني شخصيًا إذ وجدت نفسي داخل بركة عفنة من الفساد الصغير، في مواجهة تخص أرضًا زراعية لعائلتي، الخصم يتصرف طبقًا لقانون الحياة في المحليات الذي يسمونه اسمًا حركيًا هو «الحب» كان الرجل إذن يأخذ خطوات ضدنا بالحب، وكنا نبحث عن مسئولين كبار يؤدبون المرتشين الصغار، حتى تعقدت الأمور بما لا يناسب كاتبًا. طلبت من صديق عزيز أن يوصلني بالنيابة الإدارية كطلقة أخيرة في طريق نضالنا القانوني. وبعد نصف ساعة قيلولة عاودت الاتصال بصديقي وقلت له لقد اكتشفت خطئي وسأسوي الموضوع بالعرف. واستغرب الصديق من تغيري المفاجئ. قلت له: اكتشفت أنني رجل ظالم، دخلت على منظومة متوافقة على هذا الفساد الصغير. مظهر الموظفين يؤكد أنهم بحاجة إلى هذه الرشاوى كضرورة من ضرورات عيشهم. وقد أصبح الجميع ضدي لأن الخصم يمنحهم «الحب» وأنا أهددهم بالحبس. لن أشكو أحدًا.
لم يكن تراجعي نبلاً خالصًا. في الحقيقة تعبت، واستوعبت من موظفي المحليات الصغار درس التدجين الذي عشت أفخر بأنني لم أتعلمه طوال حياتي المهنية.
عن «عيار ناري»:
في الأثناء، كنت أعرف عن الأفلام الجديدة، وبينها «عيار ناري» للمخرج الشاب كريم الشناوي، وكان ما أثير حول الفيلم فاتحًا لشهية المشاهدة لكن قصة تدجيني الخاصة منعتني من مشاهدة الفيلم لأسابيع.
وقد تابعت الكتابات التي استقبلت الفيلم. باستثناء كريم النفس والعين محمود عبدالشكور والناقد الشاب النابه أحمد شوقي، كان الجميع يؤكد بعبارات مختلفة إن المخرج الشاب خان ثورة ٢٥ يناير، وقدم فيلمًا يمالئ الداخلية، ويغسل يدها من دماء شهداء الثورة. والبعض يزيد فيقول إنه دافع كذلك عن فساد ورزاء مبارك.
بعد أن شاهدت الفيلم كنت أحب أن أكتب عن الفن، وهناك ما يجب أن يقال عن «مخرج واعد لديه من العمق ما يفوق ما يجب أن نتوقعه في فيلم أول» لكن الهجوم الشرس المتناسخ من مقال في موقع صحفي إلى صفحة فيسبوك، يكشف عن قضية تتجاوز «عيار ناري» إلى قضية أكبر تمس المستقبل السياسي الذي لا يمكن بناؤه بهذه الروح من التحامل الجماعي الذي ينقصه بعض العقل.
ربما كان هناك ناقد كبير شاهد الفيلم وتمتم برحمة: «مخرج واعد تنقصه بعض الثورية» وقد تبعته الكتابات التالية متخلية عن الرحمة، لأسباب قد يكون بينها بعض النبل؛ فثورة يناير تتعرض للإنكار رسميًا، ومن الممكن إخراج الغضب ضد مخرج واعد بدلاً من مواجهة سياسي غير واعد.
في كل الأحوال، تُحتم هذه الضجة العودة إلى سؤال قديم عن المسافة بين الفن والواقع: إلى أي حد يجب أن نعامل العمل الفني بوصفه وثيقة؟
القصة بتلخيص شديد، تدور حول طبيب شرعي ابن وزير صحة اتهم في قضية فساد. هذا الطبيب يأتيه شهيد، ويكتب تقريرًا عن وفاته بطلق ناري من مسافة قصيرة ومن مستوى رأسه. وتخرج الهتافات ضد الطب الشرعي، ولا يكون من رئيسة المصلحة إلا أن تكتب التقرير البديل الذي يرضي الجماهير الغاضبة «عيار قنَّاص من فوق» مع إيقاف الطبيب عن العمل مع تسريب شيء من عاداته «فهو يشرب الخمر» وهذه قرينة تؤكد أنه ليس أهلاً لمسئولية كهذه!الطبيب المتأكد من عمله يتتبع حالة «الشهيد» مثل المحقق، ومن ملاحقته لأسرته يكتشف أن «الشهيد» لم يعرف طريق الثورة إلا ميتًا؛ فقد كان شابًا عاديًا يعاني من مأزق حمل خطيبته، ويحاول الزواج بأسرع ما يمكن، وأثناء مشادة مع أمه يدخل شقيقه ويتشاجران، فيخرج العيار الناري من المسافة الكبيرة وعلى نفس المستوى، وكان الحل لطمس هذه القصة الصغيرة ليس دفن الجثة بل التفاخر بها، ورفعها إلى منزلة الشهداء!
في مقابل هذا التقرير الوحيد هناك سبعة تقارير أخرى تثبت الوفاة من فوق وعلى مسافة بعيدة!
والغضب من وجود هذه القصة الوحيدة يفترض أن كل من نزلوا إلى الشارع في محمد محمود أو ميدان التحرير كانوا من الملائكة. من يؤمن بمقولة كهذه لابد أن يكون قد شاهد الثورة فيديو.
لهذا لا يبدو الفيلم معنيًا بغسل يد أحد في فترة لم يزل يكتنفها الغموض، كما أن القصة الفرعية للوزير المتهم لا تغسل يد نظام مبارك من الفساد، فأجمل شيء في بناء هذه القصة أن الفيلم لا يقول هل كان الرجل بريئًا أم مذنبًا، لم يتعرض الفيلم سوى أمنيه بأن يصدق ابنه وابنته براءته، وحتى لو انحاز الفيلم لبراءته هل تنسحب براءة شخص على النظام؟
ثم، ألا يستهدف النظام ـ أحيانًا ـ الشرفاء فيه عقابًا على سذاجتهم التي تعري الآخرين؟
بالإجمال يمكن بقليل من الهدوء رؤية هذا الفيلم بوصفه عيارًا احتفاليًا بـ ٢٥ يناير، بإعادته اسمها إلى الواجهة.
يمكن كذلك إن الثورة استفادت من الفيلم صدفة؛ فهي مجرد خلفية لفيلم عن مفهوم الحقيقة، تلك الكلمة التي لا تشير دائمًا إلى ما حدث بالفعل، لكنها في الواقع تشير إلى ما تريده سلطة ما أن يحدث، سواء سلطة الحكم أو سلطة الجماهير الغاضبة. التاريخ مجرد قصة يرويها المنتصر، وقد فرضت الجماهير رؤيتها للحقيقة في ظرف نادر بدت فيه منتصرة ولم يتكرر هذا الظرف، والأولى لكل غيور على المستقبل أن يناقش روايات تلك الفترة الغامضة، في ساحة أخرى غير ساحة النقد الفني.
ينتهي الفيلم على مشهد الطبيب وقد أغلق قلبه على الحقيقة التي حدثت بالفعل مفضلاً الإقرار بخطئه واعتماد رواية الجمهور عن قصة الشهيد المزيف.
لقد استوعب البطل درس التدجين، وهذه هي أمثولة الفيلم الكبرى، التي قتلتها أعيرة النقد النارية.
وكل ما أتمناه ألا يستوعب المخرج الشاب هذا الدرس؛ فالوقت لم يزل أمامه ممتدًا كي يخلص لحقيقة الفن.