«ما رآه سامي يعقوب» في المعرض

صدرت روايتي الجديدة «ما رآه سامي يعقوب» عن الدار المصرية اللبنانية. وستكون في جناح الدار بمعرض القاهرة الدولي للكتاب. سري الصغير الذي كان لي وحدي ولأربعة من الأصدقاء الذين يقرأون مخطوطاتي، صار علنيًا، وهذه لحظة مكاشفة فيها من الاضطراب ما استشعرته لحظة فراق سامي يعقوب؛ عندما أخرجت الرواية من يدي للنشر.

هنا مقطع من بداية الرواية:

القلة من المارة الذين تقاطعوا مع سامي يعقوب تجاوزوه دون أن ينتبهوا إلى ابتسامته الواسعة؛ فالناس يكونون أقل استعدادًا وأقل توقعًا للابتسام ساعة الصبح التي يتسلمون فيها حصصهم من الهموم. 

  ولو كان يبكي الآن ما كان ليجد من يقطع عليه بكاءه، لكنه يبتسم، وتتوسع ابتسامته بين خطوة وأخرى، بينما يمضي إلى منزل حبيبته، خفيفًا يكاد يطير. سيقضي النهار عندها، وحيدين لا ينشغلان بشيء سوى الحب. 

  سيدخل بيت فريدة  للمرة الأولى، لكنه أوصلها ثلاث مرات من قبل. كانت تؤشر له من بعيد إلى البيت وتودعه بصوت خافت وتمضي مسرعة لا تلتفت وراءها، أما هو  فيتابع خطوها للحظات ثم يستدير مبتسمًا. 

   بيتها في إمبابة يبعد عن النيل بالمسافة نفسها التي تفصل بين النيل وبيته في جاردن سيتي، لكن الفارق بين الحيين شاسع. في سماء جاردن سيتي بوسعه أن يرى اليمام والعصافير الصغيرة؛ الوروار وأبوالفصاد والكثير من الدوري، والهدهد الذي صار ظهوره عزيزًا.

  لا تغامر العصافير بدخول  إمبابة، بينما يمكن ملاحظة الطيور الكبيرة تنبش الفضلات على الشاطئ وتكتفي بالتحليق فوق مسطح الماء، حيث يتسع النيل مثل بحيرة ضخمة في مواجهة أبو الفدا. نوارس ضاحكة، فراخ هيش صامتة، وغربان يفلق نعيبها الماء وتنقضَّ على العوامات والمطاعم النيلية، تلتقط ما يحلو لها، وتطير  في أقواس تربط رأس جزيرة الزمالك بإمبابة، ثم تعود بعد أن تخفي مسروقاتها الملونة في أعشاشها بالأحراش تحت كوبري إمبابة. الحمام هو الوحيد الذي يُحلِّق شمالاً بأمان في اتجاه مخازن الغلال ويعود أسرابًا إلى مهاجعه من الأقفاص الضخمة الملونة فوق الأسطح، وغالبًا ما يحتاج إلى تلويح مُلاكه بالرايات، كي يهتدي كل سرب إلى قفصه. 

   شوارع جاردن سيتي تظللها الأشجار، واسعة، ممهدة  وملتفة كما لو كانت من تخطيط طفل  هيأها خصيصًا للعب الاستغماية، بينما تبدو شوارع  إمبابة الترابية قاحلة وضيقة كأنها صدوع أحدثها زلزال في كتلة هائلة من الأسمنت والطوب الأحمر العاري.  تحت البيوت الكابية تتجاور الورش، والبقالات الصغيرة، ومحال إكسسوارات التليفونات بألوان لافتاتها النيون الزاهية؛ لذلك لم يتوقع أن يكون بالقرب من بيت فريدة ذلك السور الهائل من الحديد المشغول، الذي يؤطر فناءً فسيحًا يضم ثلاثة مبان على الطراز الإيطالي متباينة الأحجام تظلل الفراغات بينها أشجار بونسيانا مترامية الأطراف مبتهجة بزهورها الحمراء. المباني، بطلائها الأبيض والوردي، نظيفة بلا غبرة أو انطفاء في اللون، كأنها سقطت من السماء هنا، وسط صف المباني المجلل بالغبار والسخام.

   اجتذبت بهجة الأشجار عينيه، ودفعه الفضول للنظر من بين تشبيكات حديد السور، فرأى زوجًا من القطط يتهارش تحت عمود إنارة في الفناء بالقرب من البوابة.

 كان قد تعشى أمس مع فريدة، ودخل معها فيلمًا، وبعد الفيلم تابعا الدقائق الأخيرة في مباراة هامة لمنتخب الكرة واقفين وسط حشد يُطوِّق الجالسين أمام مقهى في شارع جامعة الدول العربية، يضع شاشة عملاقة تبث المباراة. لم يلاحظ أحد من الجمهور المتوتر أن سامي مبتسم حتى في أوقات الخطر على مرمى المنتخب. كان واضحًا كذلك أن فريدة لم يسبق لها الاهتمام بالكرة، لكن حماسة الحشود مستهما، ومع ركلة الجزاء التي ضمنت الفوز عاشا فرحة صعود مصر إلى كأس العالم.

  

  وها هو  يحس بوثبات مضطربة من البهجة يضخها قلبه مع موجات الدم، بينما يعد  الدقائق المتبقية على لقائها، وقد منحه انهماك زوج القطط  في الحب سعادة إضافية، جعلت يده تمتد إلى تليفونه، كي يلتقط صورة، سيغوي بها حبيبته، وستكون تلك لحظة البدء لأجمل أعياد ميلاده على الإطلاق والخط الفاصل بين حياته السابقة وأيامه القادمة.