في لحظة وجد نفسه وسط الحشد المندفع مثل موج عقب انهيار سد، كان المهرولون يدفعون إلى جانبي الشارع حواجز المرور ويكتسحون في طريقهم فوارغ القنابل التي تشبه علب المياه الغازية، بينما لم تزل سحابات الدخان المهيجة للسعال معلقة في الهواء. كان يتعرف على معالم الطريق ويتبين المسافة المتبقية على الميدان من تصاميم الواجهات ولافتات المباني التي يعرفها جيدًا.
عندما وجد نفسه داخل الميدان ابتسم للمرة الأولى منذ وفاة والده، ولم يكن وحده يفعل ذلك. كثيرون حوله كانوا يضحكون، وكثيرون اختاروا البكاء. بدأت موجات منعشة من الهواء النظيف تهب وتطرد نتانة الغاز. حاول تقريب ما يشمه من روائح يعرفها؛ فلم يستطع. «رائحة الأمل» قال لنفسه. استراح إلى الاسم الذي اختاره، وسيطرت عليه أمنية أن يشيع الاسم بين الناس منقولاً عنه «لِمَ لا؛ فكل الزهور كانت في البداية بلا أسماء، ثم حمل كل منها اسمًا اختاره أحدهم اعتباطًا، وكل تركيبات العطور أخذت أسماءها من تهيؤات مخترعيها، وليس من روائحها». كان واضحًا أن الكثيرين ممن ازدحم بهم الميدان يعانون من إرهاق عدم النوم وحرقة الغاز في الصدور لكنهم سعداء، وكأنهم جميعًا يشمون ذات الرائحة التي منحها سامي اسمها للتو. غمره إحساس بأنه يعرفهم جميعًا.
أخذ يستوقفهم، ويختبر الاسم الذي اخترعه فيهم:
ـ هل تشم رائحة الأمل؟
ولم يلمس استغرابًا من الاسم. كان من يسألهم يصافحونه مبتسمين ويومِّئون بهزات من رؤوسهم لدعم الكلمات التي يزعقون بها ويتعذر سماعها وسط الضجة.
انتشرت العتمة، وشيئًا فشيئًا بدأ الظلام يهزم إضاءة الميدان الشحيحة، حينها جرَّب الهتاف. أحس صوته ضعيفًا، ونشازًا وسط التناغم الهادر حوله. يسكت محبطًا، ثم يحاول مجددًا، مستغربًا صوته. بعد عدة محاولات أحس أنه نجح. داعبت روحَه بهجةٌ لم يستشعرها منذ تلك اللحظة التي حدَّق فيها بوجه أبيه الساكن.
بعد العاشرة، بدأت الهتافات تتقلص، لصالح الخطابة والأغنيات الوطنية، وبدأ من يعتزمون العودة إلى بيوتهم في مغادرة الميدان، بينما أخذ الذين قرروا الاعتصام في تهيئة أماكنهم، وفرش بطانياتهم.
عند منتصف الليل انصرف قاطعًا شارع سيمون بوليفار، نحو شقته، برغبة في عناق كل من يراه. عندما فتح باب الشقة، طالع صورة أبيه.
جلس في مواجهة التليفزيون. أخرج تليفونه من جيبه، اكتشف ثلاث مكالمات فائتة من يوسف. صوَّب الريموت، وأخذ يتابع الأخبار. أحس برغبة في تناول شيء، رغم أنه ليس جائعًا. رفع صوت التليفزيون ودخل إلى المطبخ، حمَّص رغيفين في الفرن، ووضع قطعة من الجبن الأبيض، وقرن فلفل حار، وثمرة طماطم، قسَّمها شرائح؛ عشاء الأفلام الذي اعتاده. حمله وعاد إلى جلسته أمام التليفزيون، خفَّض الصوت، وأخذ يتأمل مشاهد الثورة في التجمعات الأخرى بكل المدن. رنَّ جرس التليفون مجددًا.
كان بوسعه أن يخفي عن يوسف نزوله إلى الميدان، لكنه لم يفعل، وأنهى المكالمة على إصراره المتفاخر:
ـ لا تخف يا أخي، لا تخف.
على مدى ثلاثة أيام، كان يستيقظ نشيطًا، يقضي النهار كله في الميدان، مأخوذًا بتلك الأسرة الضخمة المنوعة والمتناغمة تحت سماء من فراشات الطاووس. وفي الليل يسهر على مشاهدة ما جرى في مختلف المدن المدن وردود فعل الدول الأخرى، حتى فوجيء بوصول أخيه في صباح أول يوم من فبراير، في اللحظة التي كان يستعد فيها للخروج.
لولا فريدة، ربما كانت تلك التفاصيل قد اندثرت. حرصه على تزويدها بالحكايات جعل الوقائع حية. حكى لها مرات ومرات. لم يكن ولعه بالتصوير قد بدأ ليطلعها على صور للميدان من تصويره هو، مع ذلك فالصور ومقاطع الفيديو متوفرة، لكنه يحس أنها لا تنقل كل شيء «تسجيل رائحة الأمل العصية على الوصف ليس في سهولة الإمساك بلحظة عشق بين قط وقطة» فكَّر بينما يُحكم الكاميرا على الحيوانين الشبقين، موثقًا لحظة ستراها فريدة ويغمرها خجل العذراء، عندما يوجه نظرها إلى رهز القطة فتنصرف عن متابعة الفيديو، وتقرصه في خده «طيب، طيب، يا نوتي».
أخيرًا اهتدى القطان إلى اللحظة، وتشابكا. وضع سبابته وإبهامه على شاشة التليفون وأخذ يباعد بينهما لتقريب الصورة. امتلأ الكادر بنصفهما الخلفي. أدهشه تشابه حركتهما مع حركات البشر. بعد أن ضغط زر إيقاف التصوير فاجأته القطة بصرخة، ولم يشعر بالخذلان لأنه لم يلحق بها ليسجلها في مقطع فيديو. أحس على العكس بالارتياح لأنه لن يحمل مواءها المتفجع لحبيبته.
ـــــــــــ
مقطع من الفصل الرابع من «ما رآه سامي يعقوب».