أطارد الغبار

من خلف إصيص الزرع تبرق عينان تضيئان عتمة الدرج.

ماذا؟

هل كانت غيبتي طويلة إلى حد تبجح الأشباح بالخروج من ظلام الشقة إلى عتمة البسطة؟!

أشعلت النور. كانت قطة مستلقية على جنبها، وقد فرشت بطنها لستة رضع. لم تجد أمانا في هذا العالم إلا خلف إصيص اليوكا. النبتة قليلة الحساسية وضعتها على بسطة السلم لهدفين اثنين: أن تجبرني على الحضور لسقايتهــــا، وأن تمنع الجيران من وضع كيس قمامتهم أمام شقة يرونها مهـــــجورة، ولا يعرفــــون عن صاحبها إلا مساحة من جذعه تتيحها عين التلصص في بابهم، عندما ينظرون إليه ليتأكدوا من أنه وحيد كما ينبغي، وليس بصحبة امرأة ما.

لم أفكر أبدا في وضع الإصيص ليكون ما بينه وبين الجدار غرفة ولادة لقطة، تنظر بجمود مرعوب مثير للحزن. تسليم موجع للقلب تقوى معه على لم جسمها حول صغارها.

ـ لا تخافي؛ فأنا مثلك.

قلت بصوت سمعته.

ـ انظري!

في عيني ذهولك نفسه. لا تخافي، غير أنني لا أطبخ هنا، ولن أضيِّفك شايا أو قهوة.

الكتابة رغبة قططية في الإنجاب.

الكاتبة والكاتب في بلاد تحترم الإبداع، ولو قليلاً، هرة منزلية، كهرة عناية جابر. تجد من يهتم براحتها ورغباتها. وعندما تبدو عليها آثار الحمل، تعامل كما يليق بفضيلة الأنوثة في حضارة أمومية.

في بلادنا الكاتب قطة شوارع، عليها أن تجد فراغا خلف إصيص لتضع حملاً غير مرحب به. محظوظة إذا لم تهاجمها قدم ثقيلة أو يد طفولية نزقة بينما يتدلى مولودها، بين أحشائها والفراغ.

‘ ‘ ‘

روايتي معلقة بين روحي والعالم، هكذا منذ زمن بعيد. وطموحاتي ليست كبيرة. لا أبحث عن كرسي محدد أو زاوية محددة للمكتب أو ألفة مع كمبيوتر أو قلم محدد، كما يفعل الكتاب المدللون. لا طقوس، لا وقت مناسبا وآخر غير مناسب للكتابة

الصمت والفراغ هما كل ما يطلب نصي المذعور.

‘ ‘ ‘

في مدينة ملوثة بالغبار والسخام والكلام، ورغبات قططي الحقيقية (التي أحبها مثل هررة أفكاري) أهرب برواية لا تريد أن تنتهي، مثل قطة تحمل صغارها بين أسنانها، إلى حيث لا تدب قدم معادية.

أخلص ثوبي من فكي الوظيفة الكلبة. ومن رغباتي الدنيئة في صنع التاريخ بتعليقات لا يقرأها أحد حول ‘الوضع الراهن’، أهرب من حفلات العزاء وثرثرات المقاهي التي أذهب إليها غالبا بدافع الواجب. وعندما أنجح، في الفرار من كل هذا مثقلاً بذنوب التقصير، أتوجه إلى المخبأ السري، وهو احتياط تعلمته من العسكرية والقطط.

أدير المفتاح في الباب على مهل، كي أتيح الفرصة للأشباح لترحل في هدوء، لا أعرف إن كان هذا التحوط مفيدا؛ لأنني أطبق نصيحة التعامل مع لصوص المنازل الإنسيين بحذافيرها: تناوم حتى لا تستثير اللص وتفرض على نفسك مواجهة قد تنتهي بموتك.

أكبس أقرب زر كهرباء قبل أن أتخطى العتبة، أغلق الباب ورائي، وأشعر برغبة في قضاء الحاجة، أيا كان الوقت. ليست حاجة حقيقية، لكنها التعبير المادي عن الفرح بالعزلة.

تتجه عيناي إلى حيث سأجلس. أرى الغبار طبقة رقيقة، لكن متكبرة. أمسح الطاولة وما يفي بحاجتي من الأرض. أفتح الكمبيوتر وأدعه يستعد بينما أدخل إلى المطبخ لإعداد فنجان قهوة. أحاول تضليل خلايا الشم عن ذرات الغبار بزرع أنفي في أقرب مكان ممكن من رائحة القهوة المنعشة فوق النار.

أعود بفنجاني أحايل النص، بتلمس أطرافه. صفحة من البداية، صفحة من الوسط، وإطراقة طويلة أمام النقطة التي توقفت عندها في الفرصة السابقة. لا يستجيب، ويبدأ التراب في تصعيد رائحته كما يُصعّد أولاد الشوارع من البلطجية والزعران تهديداتهم كلما تجاهلناهم.

‘ ‘ ‘

صار واضحا أن الكتابة لن تأتي، تحت تهديد الغبار في شقة تركتها في عهدة أشباح أرى بصمات أقدامها على الأرض وأصابعها على الطاولة، من دون أن تهتم ولو مرة واحدة بنفض الغبار. هي بالأحرى من نثر هذه الكمية غير المعقولة في ليلة أو ليلتين من ليالي غيابي. أبدأ بالتنظيف، بينما يكاد الظلام ينقض من الممرات والغرف الفارغة مهددا بشبح، يخرج عليّ فجأة، يسألني عن جدوى ذلك الشيء الذي حملني إلى أرضهم. أضيء الشقة كلها. وعندما أنتهي من كل شيء أعود إلى الكمبيوتر؛ فأتذكر الباه!

أعرف أن الكتابة وفعل الحب ينبعان من مكان واحد بالروح. أُذكر نفسي: ما لهذا أتيت.

أعد فنجانا ثانيا من القهوة، مطمئنا روحي: الوقت ممتد، وتستطيع النوم هنا، وتزاحم بخيالاتك طوال ليلتين الأشباح السافلة التي تملأ الشقة بالغبار والصمت في غيابك.

تتلطف الكتابة بإبراز طرف الخيط، مكافأة ربما على الإخلاص، أتسلمه بانكسار من يتلقى صدقة لا يستحقها. أرد الجميل وأخفض الأنوار البعيدة عن رقعة العمل، لأن الكتابة كالأشباح، تحب الظلام.

‘ ‘ ‘

لا تكاد الكتابة، تغير مكانتي من ضيف إلى رب منزل، حتى تنقض الدنيا الكلبة تنهش قدمي، أمضي مهرولاً على أمل استئناف جديد، وغبار جديد أطارده، وأشباح عنيدة، أحاول أن أضعها في النص، حتى أقتلها.

أدير المفتاح في الباب، أنظر إلى الفراغ الخالي بين الإصيص والجدار.