التنكيل المروري بالمصريين..عمدٌ أم انعدام كفاءة؟

  وصلني على الواتس آب مقطع فيديو متداول لحركة المرور الخطرة وغير العقلانية مصور في تقاطع مصطفى النحاس ومكرم عبيد بمدينة نصر. ويقال إن الرجل الذي سلَّطته الإدارة على تخطيط مدينة نصر أستاذ في هندسة عين شمس، يباهي في البرامج التليفزيونية بأنه رفض الاستوزار مفضلاً عمله كمهندس تخطيط مدن (وأنا أعني هنا استخدام كاف التشبيه، ولن أقول مهندسًا لتخطيط المدن). 

   تقاطعات والتفافات مدينة نصر، لم تثبت على حال منذ سنوات طويلة، وهي قمة في الصعوبة، حتى ليتساءل المرء إن كان هذا تنكيلاً متعمدًا من مخططين يدركون ما يعملون ويقصدونه أو مجرد انعدام كفاءة تؤهل مرتكبها لأن يكون وزيرًا!

  ماحدث لشارع حسن المأمون مثلاً، جريمة بادية للعيان على مدار الأربع والعشرين ساعة. تحويل شارع بهذا الاتساع العملاق اتجاهًا واحدًا غير مفهوم أبدًا إلا في ضوء التنكيل العمد بالسيارات التي تتسابق بالألف لعبور التقاطع مع مصطفى النحاس في لحظة واحدة نتيجتها الفوضى والانسداد الكامل، وإلغاء التقاطع على ناصية هيئة الأبنية التعليمية يدفع القادمين من خلف النادي الأهلي إلى زحام البوابة الرئيسية في المأمون للالتفاف من ناحية الأوتوستراد بعد طلوع الروح!

   ومدينة نصر مجرد نموذج لفوضى تخطيط سائدة تحافظ على السؤال معلقًا: انعدام كفاءة أم تنكيل متعمد؟

 الغريب أن مصر تئن من ثقل سبعة آلاف سنة حضارة، يصدعنا بها في إعلام شوفيني مسكين وقليل الحيلة، ومع ذلك تتصرف إداراتها على الدوام وكأن المدينة والمدنية اخترعت في النصف ساعة الأخير الذي تحكم فيه، لهذا لا تحاول القياس على تاريخ المدينة المصرية ذاتها ولا على واقع المدن الأخرى في العالم، والأمثلة عديدة على هذا الانغلاق في وجه التاريخ والجغرافيا!

  التعامل مع المترو، على سبيل المثال، وهذا التكرار في تغيير اتجاهات المرور، حتى أننا نستخدم الشارع بالليل فلا نجده في الصباح، وكل التغييرات تنتهي بمزيد من التعقيد ومزيد من الفوضى والخطر.

  المترو السطحي والترام الذي بدأ في القرن التاسع عشر، ظلت مساراته كما هي، حيث كان لخط المترو رصيفان عريضان جدًا، ينسجمان مع عدد سكان المدينة في العقود السابقة، وعندما بدأ الضيق من الزحام، كان الحل هو إلغاء المترو، وليس إلغاء المصاطب العريضة يساره ويمينه!

   ورغم أن المخططين والمنفذين يسافرون على نفقة الدولة إلى مدن أخرى ويرون كيف لم ترفع الترام من شوارع عرضها كله ثلاثة أمتار، تستخدم للترام والوسائل الأخرى على السواء، أي كان بوسعنا أن نلغي المصاطب الضخمة يمين ويسار الترام ونفلته مع الوسائل الأخرى، وهو ليس خطرًا عليها بل يقوم في المدن بدور ضابط الإيقاع.

وبالمناسبة فالفوسائل الأخرى في المدن ـ التي يقال لها مدن ـ ليست بهذا التنوع الفوضوي الذي نعانية. 

النقل في دول عتيدة الرأسمالية تقوده الدولة، ربما لأنه جزء من هيبتها وجزء من الدليل على أهمية وجودها في حياة الناس. لا ميكروباص ولا سوزوكي ولا توكتوك، ولكن فقط مترو الأنفاق وترام السطح والأتوبيس ثم التاكسي والملاكي. وهذه الاستراتيجية في النقل لا تنفصل عن تخطيط المدن وتخطيط المرور والحالة القانونية والأخلاقية.

 ولا يحتاج المرء ليكون أستاذ تخطيط مدن، ليعرف أن توسيع شارع أو إنشاء طريق بالغ الاتساع لا جدوى منه طالما لم يتم تخطيط هذا الشارع مع باقي الشوارع والطرق الأخرى، ومع الحالة القانونية والأخلاقية في الدولة؛ فعلى صعيد البنية المادية، إذا كان هذا الشارع يصب في النهاية في أعناق زجاجات أضيق منه فهو عديم النفع، وبالنظر للحالة القانونية والأخلاقية فاتساعه ضار لأنه يحرض على عدم الالتزام بالحارات.

 ولا يحتاج المرء لأن يكون مخطط مدن ليعرف أن الجور على حق المشاة في كل التعديلات الجديدة داخل القاهرة ليس سلوكًا حضاريًا أو عمليًا، بل سلوك يناقض الحضارة والعلم. 

  الجديد في تخطيط المدن هو التوسيع من مساحات المشي الآمنة والاكتفاء بحارتي سيارات فقط. هذا الرصيف الآمن يوفر إنفاق الناس لوقتهم في التريض داخل قاعات الجيم، ويدفعهم لقطع المشارير الصغيرة مشيًا، بدلاً من تحريك السيارة الخاصة إذا كان المشوار في حدود ثلاثة كيلو مترات.

 وأخيرًا، يبدو اعتماد أسلوب الدوران لتغيير المسار وكأنه مصمم على افتراض أن السيارات تموَّن بالماء، الذي يدخل فيها ويخرج منها سحابات عطر!

المشاوير متوسطة الطول، عشرة كيلو مترات مثلاً تُحمَّل عليها مسافة مماثلة من الالتفاف المجاني، وربما تزيد النسبة في ارتباط مدن الضواحي الغنية كالتجمع الخامس بمدينة نصر. السيارات تدور كما في الجحيم، سريعة وخطرة، تطلع كوبري وتنزل كبري لتجد نفسك بعد هذا الدوران الصعب وغير المصحوب بلافتات إرشاد حتى في المكان ذاته!

 لماذا؟ والتاريخ لم يولد اليوم؟!