جاودي وعجائبه السبع في برشلونة

رعاة، ملوك، وحتى الطبيعة فرحة بالميلاد المجيد ـ بوابة الميلاد
التجريد على بوابة الصلب، ليس هذا وقت الفرح.

   لأن كرة القدم هي النشاط الإنساني الأكثر شعبية في العالم، فإن اسم برشلونة، بالنسبة لمليارات من البشر لا يحيل إلا إلى ناديها الرياضي، الذي يُعد واحدًا من الأندية الأعظم والأشهر في العالم.

 لكن هذه مجرد برشلونة واحدة، أو وجه واحد من وجوه المدينة متعددة الوجوه. 

  هي، وليس العاصمة مدريد، أكبر مدن إسبانيا السياحية، والثالثة على مستوى أوروبا بعد باريس ولندن. ولم يكن من الممكن أن تكون هكذا، إلا بفضل تعدد وجوهها، يمكن للسائح الياباني النزعة أن يركض بين متاحفها ومنشآتها الرياضية ومطاعمها المتميزة وأسواقها وحدائقها يختطف الصور لمعمارها الرائع، ومهما قضى من الوقت، فلسوف يعود بإحساس عظيم بالرضا، وبحصيلة كبيرة من الذكريات الهشة واللحظات السعيدة القابلة للمحو.

  من الأفضل لزائر برشلونة أن يسلك طريقًا واحدًا؛ فيركز على وجه من وجوهها. وأحد أكثر وجوهها جمالاً هو العمارة. وهي من أكثر المدن التي حافظت على طرزها المعمارية المتعددة وعمارتها القديمة كما كانت، حتى أن توم تيكوير مخرج فيلم “العطر”، طاف أوروبا قبل اختيار مدينة يصور فيها فيلمه، ولم يجد أفضل من برشلونة لإقناع المشاهد بباريس القرن الثامن عشر حيث تدور أحداث رواية باتريك زوسكيند التي تحمل العنوان ذاته.

  في زيارتي الأولى لهذه المدينة المتوسطية، استمتعت عيني بما استمتعت به كاميرا المخرج من طرز العمارة من القوطية إلى الباروكية والنيوكلاسيك الباقية على حالها، لكنني اخترت الغوص في برشلونة خاصة جدًا؛ برشلونة أنطونيو جاودي (١٨٥٢ـ ١٩٢٦) المعماري الذي ترك أثرًا في ضخامة هرم خوفو هو كاتدرائية ساجرادا فاميليا «العائلة المقدسة» وعددًا من بيوت العائلات البرجوازية وحديقة ضخمة، هناك اتفاق على عجائبيتها. وهناك اختلاف على عدد آثار جاودي التي تستحق اعتبارها من العجائب في برشلونة وضواحيها، حسب اختلاف نقاد العمارة في التقييم. لكن تم الاستقرار بشكل عام على سبعة أعمال مندرجة في إطار الأعمال العظيمة التي استفاد فيها جاودي من فنون النحت والتصميم والتزيين المتاحة في عصره، والتي أضاف فيها إلى تلك الفنون بذات القدر.

هناك دائمًا اختلاف على عجائبية هذا الأثر أو ذاك، لكن الاختلاف حول جمالية هذه المباني أكبر.

عن الاستقرار والحيرة

  كان جاودي معتدًا بحضارة البحر المتوسط وأجوائه المضيئة، يقول: «أوريستيس يعرف طريقه، بينما هاملت تمزقه الشكوك» وأوريستيس هو ابن كليتيمنيسترا وأغاممنون الذي ارتبط في الميثولوجيا الإغريقية بالجنون والنقاء، وقد قتل أمه انتقامًا لأبيه. وفي دراما شكسبير الأكثر تأثيرًا في الأدب العالمي، يُقدم هاملت كذلك على الانتقام، لكن جاودي رأى في أوريستيس الشخص الذي يعرف طريقه، دون أن تدمره الشكوك التي دمرت هاملت.

   ونحن لسنا مجبرين على تصديق ما يقوله المبدعون عن أنفسهم، أو بناء تحليلنا لأعمالهم بناء على مقولاتهم التي قد تكون في الكثير من الأحيان مجرد أمنيات صادقة، فما يبدو في أعمال جاودي ربما يقود إلى اعتباره ضحية الحيرة مثل هاملت وليس إلى ثبات أوريستيس. وربما لا يكون جاودي هذا الرجل أو ذاك وإنما لاعب محترف يرضي غرور نفسه، ويحاول إبهار طالبي خدماته من التجار الأغنياء، بخلط الكثير من الخطوط والطرز المعمارية. 

  «كازا بيسنس» مثلاً هو بيت عائلة ينتمي إلى طراز موديخار، أي الفن المدجن، وهو فن العرب الذين بقوا في إسبانيا المنقلبة على الإسلام، والذين يستخدمون المفردات الإسلامية في العمارة، مع محاولة تمويهها، عبر المزج مع خطوط ثقافية أخرى. 

 «كازا باتيو» بيت بواجهة زرقاء ينتمي إلى مدرسة الفن الجديد «آرت نيفو» واجهته موزاييك متوسطي أزرق، ويتجلى فيه الهوس بعناصر الطبيعة بنباتاتها وحيواناتها. 

منحوتات لعناصر الطبيعة على سطح كازا ميا

  في المقابل يبدو «كازا ميا» أو «بيت الصخرة» باروكيًا في ضخامته وعنايته بالتفاصيل، يستخدم في ديكوره عناصر الطبيعة من غصون الشجر وأشكال الحيوانات، بينما يثقل سطحه بصخور ضخمة من الصخور والأصداف التي لم أجد طريقًا لحبها، ويشير بها إلى عناصر الطبيعة المختلفة: الماء، الهواء، والنار. في الصخور فتحات تصنع أصوات هذه العناصر مع حركة الريح. أما العلية تحت هذا السقف المثقل؛ فمستوحاة من قصة يونس في بطن الحوت. السقف من الآجر المتراص في أقواس باروكية، يبدو اتصاله في المنتصف العمود الفقري للحوت، وتوحي الظلمة والسكون داخله بالعزلة، لكن طوابق الإقامة مضاءة بصورة جيدة مستفيدة من الفناء الداخلي والشوارع.

  في قائمة أعمال جاودي بيوت وترميم كنائس وتطويرها، لكن كنيسته «ساجرادا فاميليا» هي أسلوبه المتأخر الذي يضم كل ألعابه وحيله المعمارية.

كان جاودي يصمم كل شيء؛ المبنى، الأثاث، وحتى بلاط رصيف الشارع في الحي الذي يضم المبنى.

   سنوات الإهمال والبعث

   لاقت أعمال جاودي الإهمال بعد وفاته؛ حيث نشأت في برشلونة حركة حداثية متناغمة مع حركة عالمية، رأت هذه الأعمال باروكية أكثر من اللازم، وخيالية أكثر من اللازم. وفي عام ١٩٣٦ تم تدمير محترف جاودي ضمن أحداث الحرب الأهلية، وضاع الكثير من الوثائق وتعرضت مجسماته للتدمير، حيث كان يحب بناء النماذج المصغرة بدلاً من الرسم. ولم يستعد جاودي الاهتمام إلا في بدايات الخمسينيات من القرن العشرين عندما سلط سلفادور دالي، الرسام ذائع الصيت والمعماري الكتلاني جوزيف لويس سرت الضوء على أعماله.

  في عام ١٩٥٢ تأسست جمعية محبي جاودي بمناسبة مرور مئة سنة على ميلاده، وبدأت في الدعوة إلى الاهتمام بأعماله، ونجحت دعوتها في تأسيس كرسي لجاودي في الأكاديمية التقنية الكتلانية، كما أقاموا معرضًا استعاديًا له، بينما تكفل معرض عالمي لأعماله في متحف الفن الحديث بنيويورك في إعادة إعلاء ذكره ومكانته العالمية عام ١٩٥٦. وفي العام ١٩٧٦ أقيم معرض آخر طاف العالم.

 عند تخرجه، قال مدير الأكاديمية الهندسية لقد منحنا اليوم شهادة لشخص قد يكون عبقريًا أو مجنونًا. ويبدو أن جاودي فيه من الصفتين!

 بالحقيقة عادت

   عام ١٨٨٢ شرع جاودي في عمله الضخم ساجرادا فاميليا، لكنه كرس لها أخر خمسة عشر سنة من حياته، ونقل فيها مشغله، وبالقرب من بوابتها الغربية، أقام مدرسة لأبناء الحي والعمال، وتمثل بادرة الاهتمام بمن حوله سمة شخصية له، كما أراد من خلال بنائها توفير الاستقرار للعاملين بالكنيسة. تصيب الكاتدرائية زائرها بالدهشة التي يلاقي بها الهرم زواره. الوقوف داخل كاتدرائية ساجرادا فاميليا التي كرس لها السنوات الخمس عشرة الأخيرة من حياته، التي انتهت نهاية عبثية تنتمي إلى جنونه، إذ دهسه ترام، ودفن في الكاتدرائية التي أبدعها!

  لايزال العمل يجري في بناء الكاتدرائية، وتزيينها، حيث ينبغي أن يتم افتتاحها النهائي عام ٢٠٢٦ بمناسبة مرور ١٠٠ سنة على رحيل جاودي. لكنها وسط العمل تستقبل السياح والمؤمنين. بخور الصلوات في القبو وإلتماعات ضوء الكاميرات في البهو المتفاخر بجماله وأمام بواباتها الثلاث الأساسية. لا أحد يعرف عدد المؤمنين الذين يصلون في قبو ساجرادا فاميليا، لكن عدد السياح معروف من بطاقات الدخول، وهو يتجاوز المليوني سائح سنويًا، وثمن هذه البطاقات هو أهم مصادر تمويل البناء الآن مع التبرعات الأهلية.

 لمن كان يبني؟

  اكتمل في حياة أنطونيو جاودي القبو والمذبح والواجهة الشرقية المعروفة بواجهة “الميلاد”، لكن العمل يتواصل على أيدي فنانين كبار، بناء على رسومه ومجسماته. وقد اهتم جاودي، ليس في الكاتدرائية وحدها، بل في كل منشآته، بتصميم كل شيء: المبنى، وزخارفه، والأثاث، والأبواب وزجاج النوافذ، وحتى مقابض البوابات والخزائن.

  وراء كل شيء في الكاتدرائية فكرة، وفي ضوء هذه الحقيقة وبالنظر إلى تاريخ البدء في إنشاء الكاتدرائية أيضًا، يصبح السؤال مشروعًا: لمن صمم أنطونيو جاودي المبنى؟ للرب أم لنفسه ولصالح مجده الشخصي.

  تتضمن مادة الدليل الصوتي الآلي في الكاتدرائية الإشارة إلى تدين جاودي وإخلاصه للكاثوليكية، لكن هناك فارق يجب أن نفكر فيه بين معماري أنجز عمله في القرن الثالث عشر، وآخر أنجز عمله في نهاية القرن التاسع عشر، أي في زمن أصبح المعماري يعرف فيه نفسه بصفة الفنان لا الحرفي، وحيث يتصاعد الطموح إلى بقاء الذكر في الحياة لزمن طويل، وليس الخلود الذي يضمنه الورع في حياة أخرى، كذلك لا يجب أن نغفل أن فكرة المتحف التي ولدت في عصر النهضة كانت قد استقرت في الثقافة الأوروبية بعد ثلاثة قرون من بداية تأسيس المتاحف الحديثة.

 كان معماري القرن الثالث عشر وما قبل يبني وفي ذهنه الوظيفة الدينية للمبنى، وقد أنتجت المبالغة في الضخامة التي تشعر الإنسان بضآلته، والضوء الشحيح الذي يوحي بالسر، في ساجرادا فاميليا، الضخامة موجودة، لكن الإنارة الدائمة في الكاتدرائية التي تساعد مرتادها على معرفة الوقت بالتحديد لا تبدو معنية بتحقيق الغموض الكاثوليكي.

   بداية الجولة من بوابة الميلاد، حيث ذلك الفيض من الديكور المتداخل. تحت أبراج قوطية، توحي ببعض تأثيرات من أبراج المعابد الآسيوية، مع روح الـ «الآرت نيفو». 

 منحوتات الواجهة المبتهجة تصور قصة الميلاد بأسلوب كلاسيكي، مع البذخ في التفاصيل. الملوك الثلاثة من جهة، والفلاحين من جهة وفي القلب الأم والابن، في المشهد وفرة في الفواكه وأوراق الشجر. كما تغطي الورود خشب البوابة.

غابة من الحجر

مع عبور البوابة يجد الزائر نفسه في بهو الكاتدرائية الذي لا يضم مصليات على جانبيه كالعادة، ولا يفتقد الزائر ضوء الشارع، بل إذا دخل في ساعة يغمر فيها الظل الجهة التي دخل منها، فسوف يكتشف أن نور الداخل أعلى من النور الذي تركه وراءه في فضاء الشارع المفتوح على السماء. نور ملون احتفالي. وقد اختار جاودي أن يجعل الزجاج المعشق الذي يمر عبره النور من جهة بوابة الميلاد بألوان باردة توحي بالأمان والفرح، من الأزرق والأخضر الفاتح، وعلى النقيض من ذلك يعبر الضوء من جهة بوابة الصلب، عبر الزجاج الأحمر والبرتقالي. إضاءة متوترة تنقل الخطر.

  الأعمدة في هذا البهو تبدو جذوع أشجار ملساء تتفرع في الأعلى مستلهمة مشهد الغابة، هذه الطريقة التجريدية، لأفرع الشجرة هي التي رأيناها لاحقًا في بناءات الزجاج والمعدن الحداثية، ويبدو أنها على علاقة بتصميم جاودي، الذي سبق عمارة الشفافية الحداثية بتلك المساحات الزجاجية الكبيرة في الواجهات.

على العكس من بوابة الميلاد الشرقية صممت الواجهة الغربية؛ واجهة الصلب أو واجهة «آلام المسيح» بتقشف ورمزية توحي بالكآبة. تتصدر الواجهة منحوتات تجريدية لقصة الصلب، وعلى الأرضية تخطيطات بسيطة؛ كذلك فالوقت ليس وقت البذخ الجمالي الذي صاحب الفرح بالبشارة. البوابة تزينها كلمات من الكتاب المقدس بعدد من اللغات بدلا من الورود، بينما تتزين البوابة الجنوبية، بوابة المجد بأقوال الرسل، وهي البوابة الرئيسية والتي لم ينته العمل عليها بعد.

  يمكن لمرتاد هذه الكاتدرائية، أن يقضي فيها الوقت الذي يحلو له، وليس هناك الكثير من التفاصيل بالداخل، لكن كل مفردة بسيطة تحتاج إلى تأمل، حتى تصميمات المقاعد، بالغة الخصوصية والجمال، وكلها تشي بالإتقان الذي يعشقه مبدعها. 

 ومن المحتمل أن ما يبقى في نفس الزائر بعد الانصراف هو عظمة المعماري المُختلف عليه.