كيف عرف؟!

حول الطاولة نفسها، يتداعون مساء كل ثلاثاء. يتذاكرون أيام زمانهم. 

عندما يوشكون على الغرق، يشرعون في تجفيف بحيرة الذكريات، بالتأسي على فواجع صارت تتلاحق هذه الأيام كتماسيح النهر، ضخمة، مخيفة، ومتشابهة، وتصبح أكثر تشابهاً بعد الكأس الثالثة لكل منهم، فيلزمون الصمت، يجرعون من شرابهم ويمتصون من سجائرهم، وكلما استشعر أحدهم الضجر، أشار بيده للنادل ورمى إليه بورقة نقدية، ومضى دون توديع الآخرين.

في ذات ثلاثاء، شرعوا في تجفيف البحيرة، بذكر ما جرى للناس، وأوجد ظواهر  من النذالة جديدة تماما.

«خذ مثلاً، واقعة التحرش الجنسي بالفتيات في شارع جامعة الدول» قال أحدهم متأسياً.

«متى كان لدى المصريين هذا العنف، هذا الجوع» قال آخر، وبدا أن أحداً لا يريد أن يضيف شيئاً.

على الطاولة المجاورة، عجوز تجلس وحيدة، من الواضح أنها كانت تتسمع؛ فما أن صمتوا حتى زفرت زفرة أرادتها مسموعة.

ـ أوف، على تلك الأيام!

انتبهوا إلى الهيكل الجميل. بدت لهم مخططاً أولياً لتمثال مفقود. 

أعجبتها إيماءاتهم المشجعة؛ فأطلقت نظرها إلى المطلق، لتسحب خيط الحكاية:

ـ ذات صباح، أخذت دُشاً بارداً وارتديت ملابسي على عجل، ونزلت إلى الشارع بشعري مبللاً. كان نهداي هكذا، يطعنان الهواء من تحت الفستان الكتاني.

قالت وقد شرعت سبابتيها مع نظرتها باتجاههم، وأخذت تتطلع بعمق تتطلع لرؤيتهم دواخلهم. اصطبغ صوتها بالأسى وأكملت:

ـ اقترب مني بهلوان فوق دراجة يحمل طاولة خبز فوق رأسه. كان شابًا وسيمًا، مال كثيراً، حتى خفت أن يختل توازنه ويتبعثر العيش على الرصيف. قال: والله العظيم انت عايزة تتـ.. قالها باللفظ البذيء.

ـ وأنت ماذا فعلت؟!

سأل أحدهم، وكان لا يزال متيقظاً.

ـ كنت مذهولة، لأنني في تلك اللحظة بالذات كنت أريد جداً. وقفت ذاهلة، أفكر كيف استطاع أن يرى ما بداخلي من تحت ذلك الثقل على رأسه.

ـ ولم تردي عليه؟!

ـ أنا؟! كيف؟ لقد قالها واندفع متلوياً كشهاب، سرعان ما انطفأ في البعيد.

Edward Hopper