أحلام يوليو.. الثورة الخالدة في إذاعة الأغاني

لم يتكرر عبدالناصر بعظمة إخلاصه وثقل أخطائه، لكن في هذه الصورة لدينا اثنين منه، واحد مسجى في صندوق والآخر حي لا يموت! الصورة من عدد خاص بمجلة المصور

من يتجول في شوارع المدن المصرية  في 25 يناير و30 يونيو و23 يوليو سينتابه شعور الارتياح بانسياب المرور الذي يميز أيام الإجازات، مع الفارق بين العطلة العريقة والعطلتين الجديدتين.

ترتبط عطلة 23 يوليو بمفهوم “الشعب” الكتلة الموحدة التي لم تعد موجودة؛ فخمسة وعشرين يناير التي تعتبرها المعارضة المدنية والإخوان ثورة هي نكسة في عرف المرتبطين بنظام مبارك وهم أكثر بكثير من الطبقة التي انقلب عليها الضباط في 23 يوليو 1952، و30 يونيو التي قامت ضد الإخوان سرعان ما فقدت حماس المعارضات المدنية ليبقى لها مؤيدو النظام فقط. وهكذا فإن عطلة 25 يناير و30 يونيو تتوزع دوافع إقرارها بين الاحتفال وبين الحاجة لإخلاء الشوارع تحسبًا لأحداث عنف.

وهكذا تتميز عطلة 23 يوليو بالاطمئنان إلى  رمزية الشعب الموحد، لكن الثورة كحدث صارت منسية في واقع يناقض كل ما جاءت به من أحلام وطنية مصرية وقومية عربية. يوم العطلة هو المكسب الوحيد الباقي، يستفيد منه من يستطيع تمويل رحلة إلى مصيف في هذا الحر، بينما لا يفيد الفقراء إلا في إعفائهم ليوم من المهانة الحقيقية المتمثلة في معركة الوصول إلى أعمالهم عبر وسائل نقل متقشفة ومكتظة في شوارع ملوثة مشلولة تجسد التمثيل المادي لمعنى افتقاد الأمل!

على أن مناسبة الثورة التي انقلب عليها السادات عام 1970 تبقى حاضرة في رسائل تهنئة تصل إلى رئاسة الجمهورية كل 23 يوليو يرسلها مرءوسون يتخذونها فرصة لتجديد الولاء لساكن القصر، ورسائل تأتي من بعض القادة العرب بعضهم ألد أعداء 23 يوليو، كأنها تأتي احتفالاً بذكرى “وفاة الثورة”.

والجهة الوحيدة التي تحافظ حتى على حرارة الاحتفال بالثورة هي الإذاعة. وقد خصصت إذاعة الأغاني المصرية بثها طوال السبت الماضي للاحتفال بذكرى الثورة، وكل ما حملته من أحلام لا يمكن بأية حال فتحها على واقع مصر وواقع المنطقة اليوم.

الزعيم والجماهير النمل: استبداد الصورة!

الثورة بغتة!

ــــــــــــــــــــــــ

الانقلاب الذي اتخذ اسم “الحركة المباركة” في البداية سرعان ما تحول إلى ثورة بالتفاف الشعب حوله، إذ لم يمض أكثر من شهر ونصف حتى صدر أول تحديد للملكية الزراعية. وقد ظل الاحتفال بـ “الثورة” ينمو في الأغاني عامًا بعد عام، التي اتسعت تباعًا لذكر كل منجز يجد أو توجه يتبلور، وهكذا شارك كل نجوم الفترة الناصرية في إنتاج عدد ضخم من الأغنيات، يمكننا الآن أن نفرز من بينها تلك التي تنطوي على إيمان حقيقي، والأخرى التي تُمثل إثبات حسن نية وإعلان ولاء.

ومن بين الأغنيات المبكرة التي لا تحظى بشهرة عريضة أغنية محمد عبدالوهاب “اليوم فتحت عينيّ” كلمات حسين السيد: “اليوم فتحت عينيّ/ على صوت بينادي عليّ/ الدنيا بقت حرية”. تكشف الأغنية طبيعة التحول الذي استيقظ الشعب فوجده قد تم، وستبقى كلمة “حرية” في الأغنية وأغنيات يوليو التالية واحدة من مبالغات الشعراء، لكن بعض كلمات الأغنية الفضّاحة تقول: “عاهدت الوطن الغالي/ أحكمه أنا وابني وخالي”!

للإنصاف؛ فالمعنى في ذلك الوقت يرمي إلى حكم الشعب مقابل حكم الأجانب البائد، لكن مآلات الواقع تجعله كأنه كان تأسيسًا لظاهرة التوريث وحكم العشيرة، العسكرية والدينية والأسرية، وهو أهم أسباب هبوب الربيع العربي المغدور.

ورغم بروز الثنائي (عبدالحليم حافظ / صلاح جاهين) كمعبرين عن الثورة، إلا أن ما أعطاه محمد عبدالوهاب المخضرم مع شعراء مخضرمين لا يقل عددًا ونوعًا عما تركه الثنائي الشهير، من نشيد القسم إلى الوطن الأكبر، و”يا نسمة الحرية” لكن أغنيات وأناشيد عبدالوهاب  ليست في شعبوية “يا جمال يا حبيب الملايين” وربما هو الفرق بين غناء المؤمنين من أبناء المرحلة وبين غناء المخضرمين الذين كان عليهم أداء قسم الإخلاص!

مرتكزات الخلود الغنائي

على اختلاف درجات الصدق ترتكز الثورة الباقية في إذاعة الأغاني على شخص واحد وعدد من المنجزات المادية والمعاني والأحلام.

جمال المستبد العادل المتقشف الذي توحدت معه الجماهير “ياللي حياتك هيا حياتنا” [1]مات، وخلفه السادات الذي لم ينقلب على السياسات فحسب؛ بل على المسلك التقشفي الشخصي، الذي لن يراه المصريون في رئيس بعد.

المنجزات المادية ارتكزت أساسًا على تأميم القناة والسد العالي، والإنجازان متشابكان، حيث كان حلم بناء السد ورفض البنك الدولي تمويل المشروع السبب الرئيسي في تأميم القناة بما صاحبه من معاني الحرب على الاستعمار وتحديه. المعنى الذي لم يعد قائمًا منذ تسلم السادات للسلطة.

السد كمنجز ضخم تفرعت عنه منجزات تحقيق الأمن المائي وزيادة الرقعة الزراعية وتأمين حياة القرى من الفيضان وتبديد ظلامها بكهرباء السد وحركة التصنيع الكبرى التي اعتمدت على ذات المصدر، وكل هذا أصبح اليوم في خبر كان. الزراعة تعرضت للاحتقار؛ فتآكلت الرقعة الزراعية في الدلتا ووادي النيل إلى خمسة ملايين فدان بعد أن ارتفعت إلى ثمانية، والمصانع تم بيعها في فترة النهب الكبرى المباركية، وأصبحت طاقة السد الكهربائية هامشية لا تتجاوز العشرة بالمئة من استهلاك مصر، أما التحدي الأكبر فقد جاء من أثيوبيا بسد النهضة المناهض للسد العالي، لتتقوض أغنية عذبة أخرى ـ من خارج سياق أغاني الثورة ـ فالنجاشي حجب النيل، لتتحول أغنية “النيل نجاشي” إلى “النيل ما جاشي” في سخرية لاذعة وقلقة يرددها المصريون اليوم!

الواحد والكل العربي: ناصر يخطب في الجماهير من شرفة منزل بالقامشلي.

العروبة..حلم فيه سم قاتل!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ابتسم عبدالناصر من قلبه وصفق عندما سمع “ضربة كانت من معلم/ خلت الاستعمار يبلِّم” في الاحتفال الذي انطلقت فيه “حكاية شعب”[2] وقد ساهمت الأغنية في إعطاء مشروع بناء السد وتأميم القناة صورة المعركة مع الاستعمار، وتبلور مع تلك المعركة الحلم العروبي في بلد استقر في ضمير أبنائه كوكبًا مستقلاً ومكتفيًا بذاته على مدى القرون.

وقد هزم الواقع يوليو وعبدالناصر في معركة “الحرب على الاستعمار وأعوان الاستعمار”. انهزم في اليمن وفي يونيو حزيران 1967. وتحولت الأغنية من الفرح بالتحدي إلى التعهد بالثأر “أحلف بسماها وبترابها”. [3] لكن مفاهيم العروبة واسم فلسطين والتحرير كانت قد ترسخت في عشرات الأغاني بينها واحدة  تعيد تنسيب الثورة المصرية إلى الأمة العربية بل والمحيط الإفريقي الآسيوي”أنا بنت الأمة العربية، مصرية سورية جزائرية، أنا عراقية فلسطينية، أنا نهضة أسيا وأفريقيا، أنا طول عمري أعيش لعروبتي فوق العالم أرفع رايتي”. وقد نجح حلم يوليو في تدعيم حركات التحرر في بلدان عربية وأفريقية عديدة، ونجح عبدالناصر في أن يكون أحد ثلاثة أقاموا بجسارتهم حركة عدم الانحياز، فقد بقي هتاف “يا فلسطين راجين راجعين”   [4]مجرد وعد؛ إذ انطفأ عبدالناصر عشية معالجة الحلم العربي خالدًا إلى نومه الأخير بعد شقاء لملمة فتنة أيلول الأسود.

الاقتتال الأردني / الفلسطيني الذي كان عارًا بمعايير أيلول 1970 وأودى حزنه بحياة الزعيم الحلم، يتضاءل اليوم في زمن الهوس الداعشي ودول الطوائف التي تستميت كل الأطراف الإقليمية والدولية لترسيخها، ولن تستطيع إذاعة الأغاني وحدها بعث أحلام يوليو الكبرى!

“““““

سبق نشر المقال في مجلة، لم أعد أذكر ما هي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1] والله وعرفنا الحب. محمد عبدالوهاب وحسين السيد.

[2] حكاية شعب. عبدالحليم حافظ، كمال الطويل، وأحمد شفيق كامل.

[3] أحلف بسماها وبترابها. عبدالحليم، الطويل، وعبدالرحمن الأبنودي.

[4] أنا مولودة في يوليو. وردة الجزائرية، رياض السنباطي، وعبدالعزيز سلام. defauV�m:�