العشق يليق بالرجال

“مدام بوفاري هي أنا” مقولة فلوبير التي صارت شهيرة في مثل شهرته هو وروايته، من كثرة ما ذكرت من النقاد، للتدليل على أن العلاقة بين الكاتب ونصه هي علاقة حميمة.

وهذا صحيح؛  فحتى لو لم تكن الرواية سيرة ذاتية لكاتبها فهو يعطي لشخصياته من روحه، ويعيرها بعضاً من قلقه، بعضاً من أشواقه، وبعضاً من آماله وآلامه.

الكثيرون ذهبوا إلى تفسير مقولة غوستاف فلوبير باتجاه الحزن والقلق النفسي، لكن لم يخطر ببال الكثيرين أن يكون فلوبير قد قصد أن الوله والاندفاع المدمر في الحب الذي أقبلت عليه إيما بوفاري هو اندفاعه وعشقه الشخصي!

ليست “مدام بوفاري” فقط من عانت من هذا النوع من الحب، بل تشترك معها “آنا كارنينا” والليدي شاترلي.

ثلاث روايات بيننا وبين كتابة أقدمها قرن ونصف، وأحدثها قرن. ونستطيع أن نضيف إليها رواية رابعة من زماننا هي “الوله التركي”. الروايات الأربعة كتبها رجال، والأربعة تقوم على شغف تندفع فيه امرأة عاشقة وتنتهي حياتها بالتدمير، سواء من الرجل المتروك أو الرجل المعشوق.

تولستوي منح “آنا كارنينا” الحب الكبير مع الضابط الشاب، لكنها تعرضت إلى عقوبة الزوج المتروك الذي حرمها من رؤية ابنها، مما أوقعها في الندم وحولها إلى مجرد عبء ثقيل على الحبيب، وعندما فقدت كل شيء ألقت بنفسها تحت القطار.

“مدام بوفاري” كانت حياتها الروحية أكثر فقراً، وأيامها أكثر مللاً وخواء، مما يبرر اندفاعها في حب شاب أقل من زوجها، لكن اختلاف المقدمات لم يمنع النتائج من الاتفاق.

د.هـ. لورنس بدوره بالغ في خلق الذرائع للسيدة شاترلي، فهي لا تعيش مع رجل ممل فقط، بل عاجز. كان يريد أن يذم الأرستقراطية في شخصه، وجعل زوجته ترتمي في أحضان مربي الطرائد، في شغف جسدي مخيف.

الكاتب الحديث، الإسباني أنطونيو غالا، دبر لبطلته في “الوله التركي” ديسيديريا عشيقاً بعيداً يناسب العصر الذي أصبحت فيه السياحة نشاطاً مألوفاً، فقد استمعت إلى نصيحة صديقة لها بأن تذهب مع زوجها في رحلة إلى تركيا لتجديد حياتهما، وكانت هذه النصيحة بالذات هي التي أكملت البعد بينها وبين زوجها، حيث وقعت في غرام “حمام” الدليل السياحي الذي لقيت على يديه كل أنواع الإهانة والاستغلال، ابتداء من توريطها في تهريب المخدرات، مروراً بالضرب، وانتهاء بتقديمها إلى عملائه الكبار في شبكات التهريب!

ديسيديريا تختلف عن عشيقات الماضي، حتى بداية القرن، لأنها لم تلتفت إلى مفهوم “الكرامة” فتحاول وقف المزيد من الانحدار، سواء بالانتحار أو بالهروب إلى مكان جديد.

ومع ذلك تشترك النساء الأربع في أنهن جميعاً، أسلمن حياتهن للحب، ولم ينظرن إلى العواقب، فهل نستطيع أن نقول إن الكتاب الأربعة كتب كل منهم ولعه، لكنه أخفاه تحت شخصية امرأة، لأنهم يعتبرون أن العشق غير العقلاني يليق بالنساء؟!

الروايات الثلاث الأولى عاشت حتى هذا الوقت، أي اجتازت اختبار البقاء، حتى لا نقول الخلود، وربما تحتاج رواية غالا إلى مثل هذا الوقت لاختبار قدرتها على الصمود في وجه الزمن، لكن “الوله التركي” مثل الروايات الثلاث السابقة عليها تتميز بقدرة الروائي على التعبير عن مشاعر المرأة العاشقة، حتى أن القاريء يصبح متأكداً من أن هذا هو حب الرجال الكتاب، الذين يرون التعقل صفة ملازمة للرجل، والاندفاع صفة للمرأة فلجأوا إلى حيلة تأنيث حبهم.

لكن الحياة تكون أكثر صدقاً من الأدب أحياناً، أو لنقل غالباً، لأن الأدب يحب اللعب، وهناك من القصص الواقعية ما يثبت أن الاندفاع في العشق دون الالتفات إلى العواقب، هو عمل يليق بالرجال أيضاً، عندما يصدقون في الحب.

وأبلغ القصص للرد على تخفي الأدباء الرجال هو الأمير إدوارد ولي عهد انجلترا الذي ترك الحكم واتبع خطوات قلبه. y�c��3�