العمارة أيضًا تتحرش

سكن الإنسان الكهوف الطبيعية قبل أن يتعلم كيف يبني بيته.

  وجاء البيت في البداية بسيطاً يلبي ضرورة الحماية والأمان لساكنه، ومع تطور المجتمعات صارت جماليات المبنى جزءاً من معناه.

أصبح المبنى علامة على مكانة صاحبه، ولولا هذا الإدراك ما وجدت الأهرامات أو المعابد الفرعونية الضخمة، ولا أنصاب الحب مثل تاج محل. الولع بأن يكون المبنى الدنيوي أو الديني هو الأجمل والأكبر هو أيضاً الذي ترك للمدن أيات من الجمال تتحدث بذوق بناتها، كما تتحدث بولع التميز الذي يقف وراءها.

لكن المنافسة لدى الأسلاف على خلود مجدهم الشخصي التي صنعت تكرار المساجد في مثل شارع المعز، أو تكرار القصور على ربوة الحمراء في غرناطة تختلف عن المنافسة العصرية في العمارة المصرية، التي تتخذ طابع التحرش لأسباب دينية أو طبقية.

في العمارة الدينية، يبدو تجاور الكنائس والمساجد مصادفة سعيدة، بينما يحاول البعض ـ بقليل من الكذب والمغالطة ـ أن يتخذها دليلاً على عناق الهلال والصليب، وهي على العكس من ذلك تماماً، إذ تمثل نوعاً من التحرش المعماري الذي يستكمل فيما بعد بالتحرش الصوتي، حيث ترتفع أصوات الأذان وأجراس الكنائس بشكل تنافسي. يمكن ملاحظة الظاهرة بوضوح في منطقة مصر القديمة وفي كل مكان تتجاور فيه دور العبادة الإسلامية والمسيحية.

كانت هناك نكتة تروى على أنها حدثت بين البابا شنودة، والرئيس المؤمن أنور السادات: حكى البابا للرئيس قصة عن أبنائه في إحدى قرى الجيزة، وقد أخذوا يحاولون بناء كنيسة، وكلما خططوا لإقامتها على قطعة من الأرض يستيقظون صباحاً ليجدوا من يرفع فيها الآذان ويحولها إلى مسجد ، وظلوا على هذه الحال أربعين مرة، قبل أن يتمكنوا من إقامة الكنيسة. ويسأله :

ـ تعرف سموها إيه يا ريس؟

ـ إيه؟

ـ كنيسة الأربعين جامع!

يعتقد بعض المسلمين أنهم يجاهدون في سبيل الأسلام عندما يتتبعون الكنائس ويزرعون المساجد بجوارها، ولم يحدث هذا إلا في عصور الظلام التي بدأت في منتصف السبعينيات، فمعظم المساجد التي اقتفت أثر الكنائس أقيمت منذ ذلك التاريخ بعد عقود طويلة أو قرون من استقرار الكنائس في أماكنها. حارة الروم في حي الباطنية دليل على هذا، فالحارة كانت مغلقة على كنائسها وأديرتها، لكن هناك من وجد طريقة لزرع المسجد في هذه الحارة بالذات.

ولا يمكن تعداد حالات هذا التحرش المنتشرة في الأحياء الشعبية والراقية على السواء، وتكون المنافسة في ضخامة المبنى وارتفاع برج الكنيسة والمئذنة. وعندما يتم تسويق الأمر إعلامياً باعتباره دليلاً على العناق، نكون بصدد عملية تدليس تفضحها حوادث العنف التي تتفجر كلما وهن الوطن وارتفعت أصوات الجهلة من المتعبدين.

وإذا كان هذا حال التحرش في العمارة الدينية، فإن التحرش في العمارة الدنيوية يتخذ ألواناً وأشكالاً مختلفة، تصل إلى حد المطاردة المعمارية التي تشبه مطاردة الشباب الجائعين جنسياً للفتيات المحتفلات في الأعياد!

تحرشات الطبقة

المقارنة بين المتبقي من فيلات شارع مصر والسودان بحدائق القبة، وفيلات المعادي وغيرها من الأحياء الراقية تاريخياً، وبين فيلات هذا الزمان يؤكد حجم انخراط المجتمع المصري في زمن الاستعراض.

الفيلات القديمة لا يكاد المرء يميز بين الواحدة وجارتها إلا بحجم الحديقة، وكثير من فيلات المعادي القديمة هي مجرد مبنى صغير يتوسط حديقة فسيحة، بلا أدنى تميز في الواجهة، بينما تتمايز فيلات عصر الانفتاح بشكل واضح: كل من يريد أن يقيم بيته يتعمد أن يكون أكبر أو أعلى أو أكثر استعراضاً في الواجهة من بيت جاره. هذا في الأماكن والوقت الذي يتاح فيه للساكن بناء فيلته أو قصره بنفسه، وكمثال على هذا فيلات وقصور المنصورية بالهرم التي تتنابذ بالعمران ابتداء من ارتفاع السور، وانتهاء بحمامات السباحة لسكان من الأغنياء الجدد لم يتعلموا العوم في طفولاتهم البائسة!

وبخلاف هذه الظاهرة جاءت ظاهرة المنتجعات المغلقة على سكانها، والتي أصبحت مجالاً للتحرش بين شركات المعمار التي تقدمها؛ فهي تقدم نماذج متشابهة، بأسعار متساوية، لتخلق حالة المساواة بين صفوة صغيرة وفي الوقت نفسه تضمن تميز هذه الصفوة عن غيرها ممن لم يذوقوا نعمة الكومباوند الذي يحمل اسماً لحي من أمريكا أو حتى من بلاد أفقر كالبرازيل، فالمهم أن يكون أجنبياً.

ولا يمكن للشركة التالية أن تبيع معتزلها إلا إذا تحرشت بالمعتزل السابق، وبنت أفخم منه، الأمر الذي سيدفع القادرين إلى  القفز من السفينة الأولى إلى الثانية، ليصبح أكثر تميزاً، ويبقى في الكومباوند الأول الناس “البيئة”.

ومن يتأمل الفيلات الميري التي بنتها أجهزة تعمير المدن الجديدة وبين فيلات الشركات الجديدة المصرية وغير المصرية يرى كيف تحولت الفيلا الفخمة إلى مجرد بيت شعبي بائس.

هذه المطاردة المعمارية يمكن أن نلحظها أيضاً في المناطق العشوائية، وتتخذ مظهراً أكثر بؤساً، فالبيوت متراصة في حارات ضيقة، ولا يمكن لمن يبني لاحقاً إلا أن يبحث لنفسه عن شارة تميز، تكون غالباً في رفع مستوى البناء، وزيادة درجات بين الطابق الأرضي ومستوى الشارع، وبذلك تبدو الشرفات في شكل زجزاج، لا شرفة في مستوى التي تجاورها في الطابق نفسه.

وفي القرى السياحية والعمران الشاطئي بشكل عام مجال واسع للتحرش المعماري الذي ينتهي بالغلبة لطبقة معينة في هذا الشاطيء أو ذاك. من يتذكر الآن رأس البر، مصيف صفوة المجتمع ومهد جرائمه الحقيقية أو المتوهمة؟!

ماتت أسمهان في الطريق إلى رأس البر التي انتهت مصيفاً للفقراء، لا يجد إلا تعاقدات اللجان النقابية وبعض المصطافين من أرياف الدلتا.

 المنتزه والمعمورة بالإسكندرية، أعلنا في الستينيات والسبعينيات أفول شواطيء مثل الشاطبي وستانلي، لكنهما  لم تعودا المكان الحلم، منذ مولد مارينا، التي لم تتوقف المطاردة المعمارية بداخلها، ابتداء من مارينا واحد إلى الزحف المقدس نحو الحدود الليبية.

تحرش مختلط

وعلى الرغم من حجم الرثاثة التي صارت القاهرة تتمتع بها، فإنها ليست أعجوبة بين المدن في توزيع أحياء الغنى والفقر بداخلها، وتحرش الطرفين ببعضهما البعض.

أحياناً ما يبدأ الفقراء بالتحرش، فلا تجد حياً راقياً إلا وتجد بعده حياً عشوائياً: بولاق الدكرور تطوق المهندسين، وعشوائيات عزبة الهجانة تطوق مدينة نصر من شرقها بينما تطوقها منشية ناصر من الجنوب. وتقف دار السلام كالعزول بين المعادي ووسط المدينة.

هذا التجاور الذي ينطوي على عنف مكتوم، يوفر للأحياء الراقية الأيدي العاملة من خدم البيوت، واللصوص كما يوفر للحي الفقير مستوى أفضل من الخدمات التي تتلقاها العشوائيات المجاورة للعشوائيات، على اعتبار أن من يجاور السعيد يسعد، كما أنها توفر لأبناء هذه العشوائيات الفرصة للكذب الأبيض الصغير: عندما يقول ساكن الكيلو أربعة ونصف أنه من سكان مدينة نصر أو تدعي ابنة بولاق الدكرور أنها بنت المهندسين.

لكن الفقراء ليسوا البادئين بالعدوان في كل مرة، فكثيراً ما يسيل لعاب الأغنياء على عشوائيات في المكان غير الصحيح، كعشوائيات بولاق التي يتلمظ لها رجال الأعمال، وبدأوا في دق أوتادهم بها في شكل أبراج متعالية ينذر تحرشها بالاغتصاب القادم غداً أو بعد غد!