بريمو ليفي ..الساخر

غدًا ٣١ يوليو ذكرى ميلاد بريمو ليفي (٣١ يوليو ١٩١٩ـ ١١ أبريل ١٩٨٧) نجا من معسكر النازي، لكنه لم ينج نفسيًا فيما يبدو. أقدم على إنهاء حياته بنفسه بالقفز من النافذة. تتميز كتاباته بالتهكم العميق الذي لا يمنح نفسه بسهولة. هنا قصة لليفي ترجمتها القاصة والمترجمة القطرية عائشة أحمد، وأهدتها لـ «الأيك».

الرقابة في بيتينيا

بريمو ليفي

ترجمتها عن الإنجليزية: عائشة أحمد

تحدثت مسبقاً في مكان ما عن طبيعة الحياة الثقافية الباهتة في هذا البلد، والتي تعتمد حتى يومنا هذا على نظام قائم على الرعاية والدعم من قِبل الأثرياء، وطبقاً لأهواء الصفوة منهم ومصالحهم، أو على المهنين والفنانين، من الخبراء والتقنيين، الذين يُدفع لهم جيداً.

ومما له أهمية خاصة في هذا الصدد هو الحل الذي تم اقتراحه – أو لنكون أكثر دقة، الذي فرض نفسه بنفسه بتلقائية – لمشكلة الرقابة. فبحلول نهاية العقد المنصرم، ولأسباب مختلفة، كان هناك ازدياد حيوي في “الحاجة” للرقابة في بيتينيا؛ وخلال بضع سنوات فقط، اضطرت المكاتب المركزية الموجودة لمضاعفة موظفيها وتأسيس أفرع محلية لها في جميع العواصم الإقليمية تقريباً. غير أنه ظهرت صعوبات في العثور على أشخاص مناسبين: أولاً، بسبب نوع العمل كمراقب والذي كما هو متعارف عليه، عمل شاق ويتطلب الدقة والحصول على تدريبات خاصة لا يملكها حتى أولئك الذين هم على درجة عالية من التأهيل؛ وثانياً، بناءً على إحصاءات حديثة، تبين أن الممارسة الفعلية للرقابة من الممكن أن تكون خطرة.

لا أقصد أن أُلمح هنا إلى مخاطر الانتقام المباشر، والتي تمكنت الشرطة البيتينية الكفؤة من تقليصها حتى الصفر تقريباً. الأمر هنا يختلف: إذ أُجريت دراسات طبية دقيقة في مكان العمل ملقية الضوء على نوع معين من المجازفات المهنية، ذات طبيعة صعبة ولا يمكن التخلص من آثارها، مكتشف الحالة أسماها “عسر الحركة الانتيابي،” أو “مرض غاويلِوس.” الصورة السريرية المبدئية مبهمة وغير واضحة؛ وبمرور السنوات، ظهرت العديد من المشاكل المتعلقة بالنظام الحسي (ازدواج الرؤية، اضطرابات سمعية وشمية، ردود فعل مبالغ بها إزاء ألوان أو نكهات معينة على سبيل المثال)، والتي تتطور عادة، بعد نوبات من الخمول والانتكاسات، إلى اختلالات نفسية خطيرة وانحرافات. 

نتيجة لذلك، وبغض النظر عن عروض العمل برواتب مغرية، تناقص عدد المتقدمين لتلك الوظائف الحكومية باضطراد، ووفقاً لذلك ازدادت أعباء الموظفين الحاليين، إلى أن ارتفعت لمستوى غير مسبوق. تراكمت الأعمال قيد الانتظار في مكاتب الرقابة (سيناريوهات، نوتات موسيقية، مخطوطات، أعمال مصورة، ملصقات دعائية) وتكدست بكميات مهولة لدرجة أنها لم تكتفِ بالمستودع المخصص لها والذي غص بها، بل امتدت لتملأ الردهات، والممرات، والحمامات أيضاً. في إحدى الحالات التي أبلغ عنها، لقي أحد المسؤولين حتفه جراء انهيار ملفات تساقطت عليه، مات مختنقاً قبل أن يدركه المسعفون.

في البداية، وفر استخدام الأجهزة حلاً. إذ زُوّد كل فرع بأنظمة إلكترونية حديثة: وبما أني امتلك معلومات بسيطة في هذا الصدد لا أستطيع أن أصف بدقة كيفية عملها، لكن ما قيل لي أن ذاكرتها الممغنطة احتوت ثلاث قوائم مميزة من مجموعة كلمات وهي: hints, plots, topics بالإضافة إلى أُطر مرجعية. أي شيء يندرج تحت القائمة الأولى يُزال آلياً من العمل قيد الدراسة؛ أي شيء تحت الثانية يؤدي لحذف العمل كاملاً؛ أي شيء تحت الثالثة يقتضي باعتقال وشنق المؤلف والناشر مباشرة.

كانت النتائج مثالية فيما يتعلق بمعالجة الكم (في غضون أيام أخليت مستودعات التخزين في المكاتب)، لكن من حيث الجودة ثبت أن تلك الطريقة دون المستوى. كان هناك حالات مريعة من السهو الرقابي: فقد تمت “الموافقة” على مذكراتعصفوردوري لكلير إيفريم، ونشر، وبيع بنجاح مذهل، ومع ذلك كان الكتاب ذو قيمة أدبية مشتبه بها ولا أخلاقياً بشكل فاضح، استخدمت فيه الكاتبة تقنيات مباشرة وصريحة للتمويه، من خلال الايهام وإعادة الصياغة، على الجوانب الأكثر سوءاً في أخلاقيات العصر. وعلى العكس شهدنا الحالة التعسة لتاتل، العقيد تاتل، الناقد البارز والمؤرخ العسكري، والذي أُجبر على الصعود إلى منصة المشنقة لأنه ظهرت في أحد مؤلفاته عن حملة القوقاز، وبسبب خطأ بسيط، كلمة “حامل لواء” في صورة “حمالة صدر” وتم التعرف عليها في المكتب الآلي للرقابة في إيسارفان كإشارة فاحشة. نجا بأعجوبة من نفس المصير المأساوي مؤلف دليل متواضع عن تربية الماشية لأنه امتلك الوسائل التي ساعدته على الفرار إلى الخارج، وتقدم بطعن لدى القنصلية قبل أن ينفذ الحكم. 

بالإضافة إلى هذه الحوادث الثلاث والتي وصلت للرأي العام، لا بد من إضافة العديد غيرها، انتشرت بشأن بعضها شائعات تناقلتها الألسن، لكن الجهات الرسمية تجاهلتها لأن (كما هو واضح) كل المعلومات المتعلقة بها تقع بالمقابل تحت مقص الرقيب. اندلعت أزمة نتج عنها اختلال شبه تام في قوى الدولة الثقافية: وضع يستمر إلى الآن، على الرغم من بضع محاولات واهية للتغلب عليه.

مع ذلك، ظهرت مؤخراً أخبار تبعث على الأمل. إذ توصل عالم فسيولوجي، لم يُفصح عن اسمه بعد، ومن خلال إحدى دراساته المعمقة، والتي كشف عن نتائجها في ورقة بحثية، مثبتا أن هناك أوجه جديدة في سيكولوجية الحيوانات الداجنة، ومستنتجاً أنه إذا تم تعريض الحيوانات الأليفة لظروف معينة، فإنها لا تستطيع تعلم مهامٍ بسيطة مثل النقل والترتيب فحسب، بل يمكنها كذلك اكتساب القدرة على اتخاذ القرارات.

هذا الحقل واسع وشيق دون شك، ويقدم عملياً احتمالات لا حصر لها: ولاختصار ما نشر في الصحافة البيتينية حتى لحظة هذه الكتابة، نستخلص أن عمل الرقابة الذي يفسد العقل البشري، وتقوم به الآلات بطريقة غير فعالة وصارمة، يمكن أن يعهد به على نحو مثمر إلى حيوانات دربت خصيصاً لهذا الغرض. هذه الفكرة المربكة، والتي يُنظر فيها جدياً، ليست سخيفة في حد ذاتها: هي فقط مسألة القدرة اتخاذ قرارات كما أشار التحليل الأخير.

من الغريب أن الثدييات التي هي أقرب للإنسان، وجد أنها الأقل إمكانية في القيام بهذه المهمة. حيث أثبتت الكلاب، والقردة، والخيول، التي أخضعت للتدريب، أنها سيئة في إطلاق الأحكام بسبب ذكائها الحاد بالذات ولحساسيتها الزائدة. ووفقاً لعالمنا مجهول الهوية، فإن تلك الحيوانات تتصرف بشغف كبير؛ وتتجاوب بطرق غير متوقعة تجاه أدنى محفز خارجي، وهذا لا يمكن تفاديه في أي جهة عمل؛ تبدي تلك الحيوانات مثلاً تفضيلات غريبة تجاه بعض الفئات العقلية، ربما هي توجهات فطرية لكن مع ذلك لا يمكن تفسيرها؛ وذكرياتها الخاصة حية ولا يمكن التحكم بها. خلاصة القول، أنها تحت هذه الظروف تكشف عن esprit de finesse من شأنه أن يضر بأهداف الرقابة. 

النتائج المدهشة في المقابل، تم الحصول عليها من الدجاج العادي: نجاح هذا الحيوان، كما هو معروف، أدى إلى أنه عُهد لأربعة مكاتب تجريبية بفرق من الدجاجات، وهي خاضعة لرقابة موظفين ذوي خبرة بطبيعة الحال. إلى جانب سهولة الحصول على تلك الدجاجات وتدني كلفتها كاستثمار أولي، ولسهولة الحفاظ عليها، كما نجدها قادرة على اتخاذ قرارات سريعة وحازمة. تبقى كذلك ملتزمة بالبرنامج الذهني المنصوص عليه بحذافيره، ونظراً لطبيعتها الباردة والهادئة، وذاكرتها قصيرة الأمد، لا تشتتها الملهيات. 

يعتقد الرأي العام هنا أنه خلال بضع سنوات ستعمم هذه الطريقة لتشمل كافة مكاتب الرقابة في البلاد.

وافقعليهاالرقيب.

pastedGraphic.png

نُشرت هذه القصة لأول مرة عام 1961، وفي عام 2007 صدرت بترجمة إنجليزية ضمن مجموعة مختارات تحمل عنوان “نجم هادئ”، ترجمة آن غولدستين وآليساندرا باستايي.

مادة إضافية لجابر طاحون عن ليفي أرشحها للقراءة: