بنيان الألفة ٢: عمارة انعدام الهيبة

الضيق الرحب في الحواري الإسلامية هو الذي جعل العديد من الأدباء والفنانين وملوك الموضة الغربيين يسعون إلى امتلاك بيوت في مراكش يمكنهم أن يبنوا مثلها في بلادهم، ولكن أيًا منهم لن يمتلك القدرة على أن يبني مدينة أوحيًا بكامله لينشئ فيه الحواري ويؤسس في الحواري حوانيت العطور والبخور والتوابل!

   حواري غرناطة العربية هي الكنز الذي تركه المسلمون وراءهم في مواجهة ربوة الحمراء؛ فهي ملجأ السياح الأليف، ولولاها لبقيت المدينة مهملة بشوارعها الحديثة الخرقاء مثل مئات المدن الأوروبية الصغيرة.

  للأسف صارت الشوارع المستقيمة ضرورة يفرضها ازدحام المدن واتساعها، أو هكذا يتصور الجيل الجديد من المعماريين عديمي الحيلة بدراستهم المجتزأة شديدة الوظيفية. افتقدت الأحياء الحديثة الشوارع واكتسبت طرقًا لدى البشرية الكثير منها خارج المدن، مثلما افتقدت العمارة صفة الـ بيت الذي يضطجع بانتهاء عصر البناءات الصغيرة والاتجاه إلى الأبراج السكنية الضخمة التي افتتحت عصر عمارة الإنسان الواقف، بل والخائف حيث ينهض العديد من هذه الأبراج فوق محال تجارية تلجأ إلى تبطين الأعمدة الحاملة بالمرايا لتعطي للزبائن إحساسًا بالرحابة المخادعة ولكنها للأسف لا تفعل ذلك إلا لتسرب معه إحساسًا بالخوف من الهشاشة يكتمل بالواجهة الزجاجية التي تجعل البناية الضخمة تبدو معلقة فوق بحر من زجاج.

ولأن الواجهات مطلوبة لعرض السلع فإن مداخل السكان في عمارات أفخم الشوارع تنفتح على ممرات جانبية كالمخصصة لمداخل الخدم في القصور. وعادة ما يفضي الباب إلى فجوة ـ ضيقة أو واسعة ـ لا يصح اعتبارها مدخلاً حيث يتحدد فراغها بخطوط مستقيمة طاردة لا تعرف ليونة الأشكال المحدبة والمقعرة، التي لا غنى عنها في عمارة الإنسان؛ فإذا ما اجتاز الساكن محنة هذه الفجوة بسلام عبر المصعد الضيق أوالسلم المظلم إلى داخل الشقة يجد فلسفة الاستعراض في مواجهته، حيث تتميز الغالبية العظمى من الوحدات السكنية الفاخرة باستقبال ضخم يطل على الواجهة، معد لقطع الأثاث الأفخر التي يجب ألا يلمسها أحد انتظاًرا لزوار لا يأتون كثيرًا، بينما تتراص غرف النوم صغيرة مهملة على طرقة ضيقة في الجهة الأخرى. 

شارع عباس العقاد ـ مدينة نصر

وفي مقابل هذه الفخامة الرثة تتمتع المباني الشعبية محدودة الارتفاع التي تبنيها الحكومة منذ ستينيات القرن العشرين إلى اليوم برثاثتها الخاصة التي تستلهم ابتذال الفقر الجمالي للمجمعات السكنية في أوربا الشيوعية. تسلم الحكومة أرضًا لهيئات وزارة الإسكان ليتولى مهندسوها تمزيق الرقعة المجانية إلى بناءات ضيقة وفراغات كبيرة (لم يكتب لها أن تكون حدائق أبدًا بل مزابل) ورغم سهولة دخول الضوء لتلك المساكن أكثر من الأبراج الفاخرة إلا أنه يقتحمها بطريقة مباشرة ومستفزة من خلال فجوات قبيحة على سلم مفتوح على الخارج وشبابيك لا تحظى بأي نوع من أفاريز الزخرفة، بحيث لا يشعر ساكن البيت بأن هذا النور في خدمته، بل في خدمة من يراقبونه!

 لم يقتصر التخريب الحكومي للذوق على المعمار المعد للسكنى، بل إن التشويه طال المباني التي تبنيها الحكومة لنفسها، بإصرار على معاداة ليس فقط الجمال، بل والهيبة التي يجب أن تتمتع بها الدولة. ويمثل مبنى وزارة المالية في مدينة نصر الذي تكلف مائتين وخمسين مليون دولار بأسعار الثمانينات من القرن الماضي الحالة المعيارية للتفاهة المعمارية؛ بمدخله المبهم بين أعمدة مكعبة رفيعة توحي بقابلية شديدة للكسر، وبافتقاده للشبابيك الكبيرة التي تناسب اشتياق الداخل لالتقاط النسمة الشاردة معظم أيام السنة في مصر. وتفتقد الشبابيك الشيش الخشبي لتقليل ضوء يمكن أن يقود تسلطه  إلى الانهيار العصبي، هناك فقط الزجاج الذي تستخدمه البلاد الباردة لأنه يناسب ظلامها ويتربص بكل شعاع ضوء أودفء يمكن أن يتلطف ويأتي دون موعد.

الشبابيك الصغيرة والكثيرة العدد لا توحي بأنها شبابيك مكاتب، بل تبدو مثل مناور دورات المياه، بينما يتكفل  وضعها التبادلي واللون الأصفر الفاقع في أطرها الألومنيوم  بمنح  المبنى المترامي الشكل الساخر والهش للعبة ميكانو!

مبنى وزارة المالية ـ مصر

ومن سخريات القدر أن التدبير البائس اكتمل بحظ أكثر بؤسا منع لسنوات طويلة استخدام المبنى رغم ما أنفق في إنشائه، لكن هناك العديد من المباني المشابهة التي لم تصادف القدر نفسه من سوء الحظ تعمل بكفاءة ويتشاجر داخلها يوميا مواطنون فاقدون للأمل مع موظفين من فاقدي الهيبة والرغبة في الإنجاز.

غلاف الأيك، طبعة كيندل الإلكترونية

ولا تلوح نهاية قريبة لحمى تزجيج المباني التي أصابت الحكومة أولاً فسهلت للسماسرة ووكلاء الماركات الأمريكية من السلع المختلفة اجتياح الأحياء الجديدة في المدن الكبرى بمجمعاتهم التجارية التي نقلوا معها اسمها الأمريكي mall بممراتها الصاخبة التي لا تشبه الشوارع وسلالمها الكهربائية التي لا تمنح زائرها تسلية ألعاب مدن الملاهي. 

التيه البليد للمجمعات التجارية الضخمة لا يقدم أي دعم للخيال؛ بعكس مكتبة بابل التي ابتدعتها مخيلة رجل ضرير في مواجهة غموض العالم، وقد نسخ أمبيرتو إيكو متاهة بورخيس ووضعها في دير روايته اسم الوردة بعد أن زودها بالكتب السامة والمؤامرات وعنف الجنسية المثلية. 

 لو حاول الأمريكيون أن يبنوا مجمعاتهم التجارية وأبراجهم على هذا النحو الخيالي فلربما وجهت إليهم البشرية الشكر بدلاً من المذمة التي يتلقونها لقاء السبابات المتغطرسة المتجهة إلى السماء، تلك السبابات التي يراها جان جينيه علامة إنعاظ تتناسل في السماوات دون داع، لكنها في السماوات العربية لا لتشير إلى الغطرسة كما في مجالها الثقافي الأم؛ بل إلى حقيقة التبعية الفجة والخراب العام الذي يقوده تحالف السماسرة والفاسدين.

ميدان طلعت حرب

 الأمر مختلف بالنسبة لمباني قاهرة القرن التاسع عشر، التي ظلت تعرف بـ القاهرة الحديثة حتى ما قبل الهجوم الفوضوي للعمارة الأمريكية بسنوات قليلة. وقد شكا لي شاعر عربي صديق مقيم في القاهرة من زيارات أقربائه، لأنه يجد نفسه مضطرًا لمغادرة عزلته وعاداته الحميمة لكي يصحبهم إلى المعالم السياحية المهمة، ومن بينها بالنسبة لأقارب هذا الصديق دار القضاء العالي بقلب القاهرة، حيث يصرون على رؤية الواجهة  الشاهقة للمبنى التي يشاهدونها في الأفلام القديمة!

نبهتني شكوى الصديق إلى الشيء الذي يسربه هذا البناء بطوابقه الثلاثة إلى لا شعور الناظر إليه، حتى بعد أن أقيمت على مقربة منه أبراج لم تنجح بزجاجها العاكس في زعزعة الخشية التي يلقيها المبنى الفخم في القلوب، حيث تتناسب هيبة العمارة الفخمة في غير إسراف مع هيبة العدالة التي تمثلها. 

   في المقابل أمر في طريقي  اليومي من مدينة نصر إلى وسط القاهرة بمجمع المحاكم بالعباسية،  وهو مبنى واسع، دون أن يصح وصف الكبير عليه، أنفق عليه بسخاء ولم  ينجح الرخام الرصاصي الذي يغطي حوائطه في إضافة أي مظهر للفخامة، بل إن العين تقتحم المبنى بحثًا عن رشح المياه وأغلاط التنفيذ في لصق الرخام، أو وقوع أجزاء منه أثناء إنجاز ما يليه من أعمال الكهرباء وتركيب المكيفات، وغير ذلك من أعمال صار عدم الإتقان عنوانا لها، مثلما صار ثقافة مستقرة في كل ما نفعل اليوم!

 هذا المبنى الذي يقع إلى يمين الصاعد على كوبري العباسية من جهة مدينة نصر تكشف شبابيكه الصغيرة عن النمل البشري المتنازع داخل قاعات ليس لها هيبة قاعات المحاكم القديمة، لا يتخطاه المرء إلا لتصدمه ـ بعد أمتار قليلة من انحداره من الكوبري ـ  علبة أخرى من الجرانيت الأحمر إلى اليسار في حرم كلية طب عين شمس، مبنى مسمط كمصطبة عديمة النفع، ويتحير المرء إذا ما بحث عن حكمة كسوة خلفية مبنى بكل هذا الجرانيت في فناء لا يمر به أحد، وفي تجاور مع بناء صغير بلون ترابي رث يبدو غرف كهرباء أو ما شابه، احتفظ برثاثته ليفضح سفه الفخامة غير الضرورية للمصطبة الجرانيتية!

دار القضاء العالي

ربما كان اهتمام الضيوف العرب من أقارب صديقي يتركز  على مبنى القضاء العالي  بالذات لأنهم أقاموا معه علاقة سابقة عبر الشاشة الفضية، لكن الهيبة والجدية التي يستشعرها المرء في مواجهة هذا المبنى هي نفسها التي تنتابه في مواجهة كل مباني المحاكم القديمة وكافة ما ورثناه من مبان حكومية أنجزت قبل ثورة يوليو، مبنى البريد ولصقه مبنى المطافئ بالعتبة،  دار الحكمة، ومباني الشهر العقاري ومقار الوزارات ومجلس النواب ومحطتي القطار في القاهرة والإسكندرية.

وسواء اعتمدت هذه المباني طابعا معماريا نقيًا ـ روماني في الغالب ـ أو استلهمت أكثر من تأثير فإن فلسفة واحدة كانت متبعة تتلخص في الأعمدة الشاهقة التي توحي استداراتها بالليونة بينما تؤكد قوتها من خلال الضخامة، والعظمة بالمداخل الرحبة والدرج المرتفع عن الأرض، مع تقشف في الديكور والطلاء المعتمد على اللون الأبيض أو الوردي الخفيف، وهي بهذا تمنح من يدخلها إحساسًا بالرحابة المريحة بنفس القدر الذي تعبر به عن قوة وفخامة الإدارة التي تمثلها وبعدها عن  السفه في الإنفاق.

 ولا يمكن في الدفاع عن المباني الحديثة  الاحتجاج بتغير طبيعة العصر التي صارت تحتم زيادة الارتفاعات وتعدد الأدوار، لأن الفخامة المقتصدة ممكنة أيضا في الأبراج، كما أن هناك العديد من المباني الحكومية التي أنجزت  السنوات الأخيرة في عدد محدود من الأدوار وتمتعت ببسطة في الأرض أكثر من التي أتيحت لمبنى مثل وزارة المواصلات بشارع رمسيس بوسط القاهرة، ولكن المحاولات الجديدة جاءت شديدة البؤس لا تنم إلا عن افتقاد الخيال.

يتبع غدًا، من فصل «بنيان الإلفة» ـ كتاب الأيك.

رابط الكتاب على كيندل: