يخرج الوليد من رحم لم يختره إلى بيت بناه وأثثه الآخرون، وما إن يبدأ اللعب حتى يشرع في بناء بيته الخاص. صغار الريف يبنون من الطين والأعشاب وأدوات البيئة البسيطة، وأبناء المدن الموسرون يبنون من المكعبات الخشبية والمعدنية والبلاستيكية، ومن الرمال على شاطئ البحر. ويؤثث الصبية الفقراء للجراء الضالة بيوتًا في الشوارع، كما يؤسس صبية القصور لكلابهم المنعمة بيوتا في حدائق منازلهم، ولا تتنازل الفتيات عن تأثيث غرف خاصة للعرائس في فضاء أسِّرتهن. وعندما ينضج الإنسان ويحصل على الفرصة لاختيار مسكنه بنفسه فإنه يختاره بحدس جنسي حتى دون أن يعي ذلك.
تقول الأسطورة إن الكائن البشري خلق كاملاً في البداية ثم عاقبته الآلهة بشطره إلى نصفين ليعيش كل نصف بحنينه إلى النصف الآخر. وطالما أننا لا نملك تفسيرًا لهذا السعي أكثر إقناعًا فسنظل نؤمن بالتفسير الوحيد المتاح للحب (الذي تنسبه المركزية الأوروبية لنفسها باعتباره من ابتداع أفلاطون في المأدبة بينما عرفته الفيدية والزرادشتية قبل أفلاطون بقرون عديدة ). وسنعيش في طراد الحب مثل قطيع في الصحراء يمني نفسه بالشرب من البحيرة التي تصطنعها مرآة الرمل على بعد الخطوة القادمة دائما. ولأن سواتر الجبر ـ كأوراق الشجر التي استخدمها الأبوان ذات مرة ـ لم تعد مقبولة فإن المطاردات بين الجنسين سترتبط دائما بمطاردة لغرفة ما وعمارة ما.
وقد عرف التاريخ عمرانًا أُقيم بأمر الحب مثل تاج محل في الهند الذي أقامه عاشق مكلوم بهدف استعادة حبيبته من الموت، ومعبد نفرتاري الذي أقامه الفرعون لصق معبده في أبي سنبل، وكذلك مقبرتها في البر الغربي بالأقصر. وقد عرف الفنان المصري كيف يوصل رسالة العاشق في كل مرة؛ كيف يؤنث البناء المنذور لتبجيل الأنثى برسومه الرقيقة ونقوشه المنمنمة التي جعلت من البقرة حتحور إنسية مغوية مسترخية في رحابة المعبد والمقبرة، بينما على الذكر أن يرضى بالانتظار الأبدي بالساحات على هيئة مسلات تحرس الجمال النائم بالداخل.
ذاك المجاز الرقيق كان عليه أن ينحو إلى المباشرة كلما فقدت البشرية شيئا من ذكاء حواسها مع التقدم في العمر، وكان على المعماري المحتفي بحنين الأنصاف أن ينسخ تكورات الجسد النسائي في الأقواس ثم القباب وأن تواصل استقامات الرجل رمزيتها في الممرات الطويلة الضيقة والأعمدة التي تحمل الأقواس، ثم المنارات التي تواشجت مع القباب في نمط معماري تبناه الجميع وادعته كل حضارة لنفسها.
اليوم ـ كما في السابق ـ لا يمتلك ترف القدرة على إقامة أنصاب للحب فوق هذا الكوكب المتعجل لفنائه سوى قلة من الملوك والأثرياء ( الذين ورثوا من الجمال ما يكفي لتعطيل حواسهم ) ورموز الفساد الاقتصادي في العالم الثالث (أولئك الذين لا يملكون الذكاء الحسي ولا تهمهم نوعية المعمار بقدر ما يهمهم أمن علاقاتهم السرية ) وبالطبع الحكام غير المنتخبين (أولئك المشغولين بتأمين بقائهم ولا يجدون في أنفسهم هذا الميل) لكن تبدد فرصة البشرية في بناء كاتدرائيات الحب الكبرى مجددًا لن يدفع الإنسان إلى عدم احترام حسه العاطفي الخاص عند اختياره لمسكنه مثلما يفعل عند اختياره لشريك حياته الذي سماه القرآن “سكنًا“ أيضا.
والحد الأدنى من الطموح الإنساني يتمثل في تحقيق الضرورة؛ ضرورة أن يكون للمرء مكانه الذي يحتوي راحته وعاداته، خاصة إذا كان عاشقا أو كاتبا؛ حيث يولد النزوعان الغامضان: الحب والإبداع من ذات المكان بالنفس البشرية. هذا الميل إلى المكان الخاص جسدته فرجينيا وولف في كتابها غرفة تخص المرء وحده. طموح الغرفة الأنثوية لدى فرجينيا صار بيتًا كاملاً احتضن كتابات وعشاق مارجريت دوراس التي عرفت كيف توفق فيه بين عزلتها وعشاقها؛ إن كان صحيحا ما قالته في كتابها البديع الصغير “الكتابة“.
تبدأ علاقة المرء بعمارته المفضلة من الشارع ـ حتى لا نقول المدينة بكاملها ـ والطريقة التي تتراص بها بناياته، وواجهة بنايته الخاصة ثم مدخلها من حيث التصميم والاتساع والنظافة واللون وأشكال الجيران المحتملين ممن يعبرون في لحظة اختياره، كذلك لون المصعد ودرجة راحته، درجة إضاءة السلم وعلاقة الباب بأبواب الجيران في الطابق ذاته، حتى إذا دخل الشقة عرف مباشرة إن كان سيواصل البحث أم أن هذا سيكون مكانه. ولا يستريح للشقة حتى يشرع مباشرة في تأثيثها في خياله، فتلك الغرفة بالذات ستكون غرفة نومه وهذه للأطفال الموجودين أو المحتملين، وتلك ستتطلب تعديلا طفيفًا في وضع الشباك لتناسب مكتبته.
لا أحد يفكر بوضع سرير في الصالة أبدًا، ولكنه يصطفي مكانًا للكنبة التي سيستريح عليها في مواجهة التليفزيون أوالشرفة؛ المصدران المحتملان للطلة الخيالية للجنس الآخر. ولا يختلف هذا التطلع كثيرًا لدى الإنسان الوحيد عنه لدى المتحقق في علاقة، لأن السعي الغامض للحب لا ينتهي.
في البحث عن الزمن المفقود لم يكن غير ذلك البيت الكبير ذو الممرات الطويلة والسلم الذي يفصل غرف النوم عن مكان الاستقبال قادرًا على أن يمنحنا متعة الترقب خلال اللعب بالرسائل التي تحملها الخادمة بين مارسيل بروست الطفل وأمه استجداء لأكثر القبلات إلغازًا. ولم تكن غير تلك الشقة في العمارة القديمة قادرة على إثارة الغموض المعذب لـ سوان من المعبودة الغامضة أوديت نصف العاهرة نصف القديسة التي ستصير زوجته فيما بعد والنموذج الجنسي للصبي مارسيل وقد فتنته الظلال والستائر المعتمة وزهور البنفسج كما فتنت سوان من قبل.
على أن العمارة التي تحتفي بالحواس في الكتابة الغربية تبدو بلا نوع، بينما تملك العمارة العربية تاريخا من التجنيس في انحياز واضح للأنثى صنعه المتصوفة الكبار الذين جاءوا من بيئات الرفاه والفخامة في إيران، والعراق، ومصر، والأندلس التي أهدت الحضارة الإسلامية الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي صاحب المقولة المختلف عليها:المكان الذي لا يؤنث (أو يؤنس) لا يعول عليه. وكلتا الفكرتان صحيح لأن العمارة هي أكثر الأشياء شبها بالمرأة؛ فكلتاهما تتدهور وتفنى سريعا بالهجر.
في فتوحاته يؤنث ابن عربي الكعبة فيتخيلها وقد شمرت أذيالها وارتفعت عن قواعدها لتمنعه من الطواف بها:“واسمعهاـ والله!ـ وهي تقول لي:تقدم حتى ترى ما أصنع بك!” ثم يستطرد في خيالاته:“هكذا خيلت لي: قد جمعت ستورها عليها، لتثب عليّ! وهي في صورة جارية لم أر صورة أحسن منها، ولا يتخيل أحسن منها فارتجلت أبياتا في الحال، أخاطبها بها، وأستنزلها عن ذلك الحرج الذي عاينته منها. فمازلت أثني عليها في تلك الأبيات وهي تتسع ( ربما تستمع ) وتنزل بقواعدها على مكانها، وتظهر السرور بما أُسمعها، إلى أن عادت إلى حالها كما كانت وأمنتني. وأشارت إليّ بالطواف“.
في الليلة السادسة والأربعين يميل مسرور التاجر (الذي يحب النساء والتنزه في الرياض) إلى بيت مهجور، فيسمع أنين صوت يرثي الأطلال، لكنه عندما “نظر إلى داخل الباب فرأى روضة من الرياض في باطنها ستر من ديباج أحمر مكلل بالدر والجوهر وعليه من وراء الستر أربع جوار بينهن صبية دون الخماسية وفوق الرباعية كأنها البدر المنير والقمر المستدير بعينين كحيلتين وحاجبين مقرونين وفم كأنه خاتم سليمان وشفتين وأسنان كالدر والمرجان وهي تسلب العقول بحسنها وجمالها وقدها واعتدالها“ هذا التأنيث للمكان معتاد في الليالي، حيث يمكننا توقع الأنثى الأجمل بعد وصف المكان الجميل. وفي مثل هذا البيت الباذخ يقيم مؤلفو “ألف ليلة“ دائمًا حفلات الحب المرضي عنه، بينما يضعون المرأة الخائنة في كوخ حقير، ولا ينسون معه تحقير العشيق، ولا ينتهون من الحكاية إلا بمسخ الخائنة كلبة.
في بلاد العمارة الوظيفية المستعجلة كتب الأمريكي جيمس دروت واحدة من الهجائيات المبكرة للنمط الأمريكي من العمارة في روايته “العدو“ التي أخذ بطلها الصبي روبي يقطع البلاد الأمريكية على دراجة بحثا عن العمارة الصديقة للروح، وعندما صار شابا وأحب الفتاة ماري قررا معًا هجرة مدن الأبراج لتنفيذ حلمهما ببناء بيت يدور حول الشمس ويحتوي حبهما بحنانه.
الكتابة لا تعرف المستحيل وهذه فضيلة تشترك فيها مع الأحلام، بينما الواقع فظ وعنيد. و قد رحل المعماري العبقري حسن فتحي دون تحقيق فكرته المستحيلة بالعودة إلى الطبيعة، ليبني الفقراء مساكنهم الجميلة بأنفسهم من الطين. وبقيت قرية القرنة في الأقصر لتنعي صاحبها وفكرتها التي قاومها المقاولون بكل ما يملكون من شراسة دفاعا عن حقهم في الوجود والاستغلال.
كان حسن فتحي يحلم برؤية انتصار المعمار الذي اقترحه لفقراء القرى الحارة بما تضمن من جماليات وتوظيف بيئي يعتمد فكرة مصائد الريح وارتفاع القباب الذي يسمح بتبريد الهواء من خلال دورانه في الظل، ولكنه رحل فيما يبدو بأسفه على تحول أفكاره إلى فلكلور بائس يستخدمه الأغنياء من هواة الوجاهة في أماكن غير ملائمة. ولا بد أنه ضحك في أخريات أيامه عندما علم بوصول نمطه المعماري إلى البحر، آخر مكان كان يتصور أن يصله هذا النموذج بمناوره الصغيرة التي تناسب قيظ الصحراء وتحاول أن تسرب الهواء وتحتفظ به رطبا داخلها؛ بينما يبني الناس على الشواطئ عادة شرفات كبيرة يشهدون منها البحر وأول خروج للشمس من مياهه في الصباح وانطفائها التدريجي في المساء وهي تمد أقدام أشعتها المرتعشة إلى الماء شيئًا فشيئًا حتى يكتمل غرقها!
ولم يكن اختيار المكان الخطأ لزرع عمارة حسن فتحي أكثر إيذاء لأفكاره من التحول عن الطين (المفردة المعمارية المعادلة للحياة ) إلى الموت الكامن في الأسمنت والجبس وبرودة الرخام، والنتيجة النهائية اليوم أن حسن فتحي كان سببا في إيذاء عمارة الإنسان من حيث أراد خدمتها! أو أن ظروف التشوش كانت أقوى من الجميع؛ فما اقترحه حسن فتحي كان الفلاحون المصريون ينفذونه في دورهم المبنية من الطوب اللبن باستثناء القباب التي استحدثها، ولكنهم تحت غواية الصورة وتحت ضغط ضرورة التوسع الرأسي استجابوا لأبنائهم الذين تأثروا بصورة المدينة فأخذوا يهدمون بيوتهم ويبنون مكانها بيوتًا من الأسمنت تقف إمكانياتهم دائما دون إتمام تشطيبها، فصارت القرى امتدادًا للمناطق العشوائية في القاهرة التي لا يحظى طوبها بأي طلاء، ليظل لونه المعادي للبيئة الحارة عنوانًا دائما على سوء التدبير.
كان التأكيد الثقافي لحسن فتحي على أهمية هذه العمارة سببا في نقلها من مستوى “الضرورة“ إلى مستوى “ العلامة“ لتصبح دليلاً على التميز الثقافي لمن يحتفي بها؛ أي أن الفكرة تم ابتذالها بهذه المحاكاة الساخرة، لتصبح شاهدًا جديدًا على الابتذال المعماري.
مصائد الهواء والظل التي اعتمدها حسن فتحي، هي نفسها من أفكار العمارة العربية بمشربياتها وأفنيتها الداخلية التي تحتفظ للبيت بهدوئه وبرودته والتي زودت الغرب بأطول وقائع سوء فهم حضاري في التاريخ، حيث لم تزل الفكرة عن أجنحة الحريم المنذور للذة مسيطرة على الصورة الأوروبية للشرق؛ لأن الرحالة المتعجلين لم يعرفوا أن الحريم ضم نساء عرفن كيف يجعلن من السلاطين مجرد صورة وستار يدرن السلطنة من ورائه، وإلى جوار تعدد الزوجات والسراري للسلطان وقلة من الأمراء كان الخباء علامة غنى تسعى إليها الزوجة الوحيدة، حيث كانت الفتيات الأكثر حظا ـ في الريف خاصة ـ ينلن هذا الامتياز الذي يقيهن شر الأعمال الشاقة في الحقول، وحيث يحرص الرجل الموسر على تخبئة الزوجة الجميلة المحبوبة والمطاعة التي تدير حركته مع المجتمع من خبائها، بينما تعدد النساء الذي يستبشعه أو يستغربه الغربيون كان موجودًا لديهم، عندما كان كبار الملاك في أوروبا يغتصبون لأنفسهم حق الليلة الأولى مع زوجات أتباعهم من أقنان الأرض، ورغم أن كلا الوضعين لم يعد موجودًا اليوم فإن الشرقي وحده احتفظ بصورته المؤبدة.
وقد تلقت العمارة العربية، بما تمثله من قيم جمالية واجتماعية، هزيمتها الأولى على يدي الطراز الروماني في القرن التاسع عشر، وتقبلت المدينة العربية هذا الغزو راضية وعرفت كيف تعتز به، قبل أن يعلن هو الآخر إخفاقه في مقاومة ضلال وتكبر العمارة الأمريكية التي تعادي حواس الإنسان.
على أن التميز الحسي للعمارة العربية على مثيلتها الأوروبية الحديثة لا يقتصر فقط على نمط العمارة الذي يحتفي بالخصوصية ويعظِّم من شأن الظلال، بل إنه يبدأ من تخطيط المدينة ذاته بحواريها الضيقة التي تتسلم بألفتها العائد من إجهاد الخارج مثل عنق طويل لرحم حان، وباستثناء الحواري التي حملت اسم حرفة أو اسم علم من الرجال نطالع إلى اليوم لافتات حواري حملت أسماء نساء مثل “حارة الست وسيلة“ خلف الجامع الأزهر، أما أكثر الأسماء شاعرية فيقف على كتف حائط بالجمالية وهو“حبس الرحبة“ وتقوم بداية تلك الحارة بعمل يشبه عمل محبس الصنبور، حيث يضيق الشارع الواسع فجأة ويتحول بانعطافة صغيرة إلى الحارة التي تحبس الرحبة لصالح سكانها، وبدون هذه الحبسة يستمر الشارع القادم من باب النصر على اتساعه فلا يترك الباعة والعابرون الغرباء لحظة راحة للمقيمين.
الباب أول الأمان في البيت العربي، وفي الوقت الذي كانت روما تفخر فيه بقصر زكارى الذي ينفتح بابه على شكل فكي عفريت من عفاريت ألف ليلة كانت بيوت أعيان القاهرة تحمل تشكيلات جميلة من الخط العربي بأدعية مثل:”يا رزاق يا منان“ أو“يا مفتح الأبواب افتح لنا خير باب“. هذا السلام المعلن فوق الباب يصافح الضيف قبل أن يدخل إلى البيت الرحم المعزول تماما عن ضجيج الخارج؛ البيت الذي تتوالد حجراته من بعضها البعض في تتابع ينتهي برحابة لا غنى عنها لإطلاق عمل الحواس.
لا يمكن لساكن مثل هذا المكان أن يحتفظ بنفس لياقته الجنسية إذا ما انتقل إلى سكنى شقة في شارع تجاري صاخب. وربما صار الفناء الداخلي، الذي يحتفظ بمخزونه الخاص من الهواء، أكثر ضرورة اليوم في ظل سهولة تعرض المدن للحروب الكيماوية والجرثومية.
يتبع غدًا، من فصل «بنيان الألفة» كتاب الأيك، رابط الكتاب على كندل: