بنيان الإلفة ٣: العمارة تفضح

في مقابل الاندفاع لنقل عمارة البلاد الباردة، هناك الارتداد غير العاقل للتاريخ، والنقل العشوائي من التراث الفرعوني، فعلى العكس من الفخامة الرومانية لدار القضاء العالي المتناغمة مع جوارها والتي تتمتع بمساحة من الفضاء بمثابة حرم ينبه الداخل إلى طبيعة المكان (تحول الآن إلى موقف سيارات)  أقيم المبنى الجديد للمحكمة الدستورية العليا على كورنيش المعادي في شكل معبد فرعوني حقيقي.

 لم يستلهم المعماري أفكارًا من فلسفة العمارة الفرعونية، بل نسخ معبدًا والنتيجة شديدة البؤس، حيث لا يمكن للعابر أمام الأعمدة المائلة لمعبد العدالة هذا أن يتخيل بالداخل قضاة موشحين ومحامين حقيقيين في أروابهم السوداء، بل ممثلين مثل أولئك الذين يؤدون أدوار الحياة في مصر القديمة أمام السياح بالقرية الفرعونية!

المحكمة الدستورية، لم ينقل المعماري روح العمارة الفرعونية بل نسخ معبدًا

وإذا كان بنّاءُ المحكمة قد استلهم معبدًا، فإن هناك ما يشبه الحمى في البناءات التي تتكاثر  مستلهمة مقابر الفراعنة الفخمة، حيث تنتشر العديد من الأهرامات مثل نادي البنك الأهلي بأرض الجولف ونادي هيئة تدريس جامعة الأزهر بمدينة نصر ومبنى لوزارة الداخلية في مقابله، ولعل أبرز مباني هذا الطراز المدينة العلمية بالإسكندرية.

ولا أدري ما الحكمة من استلهام شكل الهرم الذي ينفذ أحيانًا مقلوبًا فيوحي بقمته العريضة وقاعدته الضيقة  بالتهديد الدائم بالسقوط، وينفذ معتدلاً في مبان أخرى كشارة لهدر الإمكانيات، حيث يضحي بانيه بما أنفق من أساسات لكي ينتهي المبنى بقمة ضئيلة عديمة النفع!

 المشكلة أن التدهور المعماري في المباني الحكومية لا يقف عند حد افتقاد جماليات العمارة، بل يتعداه إلى كشف العلاقة الملغزة بين الحاكمين والمحكومين، فالارتفاعات المنخفضة للأسقف تفضح تدهور هيبة الإدارة، كما أن بتر العلاقة بين الداخل والخارج يكشف عن نوع من خوف الداخل من الخارج أو التعالي عليه.

وقد انقطعت العلاقة بين الداخل والخارج بالإقلاع عن عنصرين مهمين من عناصر الألفة المعمارية بين داخل وخارج المبنى وهما: أسوار الحديد المشغول والشرفات.. والغريب أن سياجات الحديد التي اختفت من أسوار المباني تنتشر في الشوارع للفصل بين شطري الطريق مثل فطر سام يتكفل بإعطاء شوارعنا مظهر السجن المحكم. هذا الحديد الذي يستخدم للفصل والتقييد كان يؤدي وظيفة مختلفة تماما في الأسوار التي تطوق أفنية المباني الحكومية وقصور أثرياء الماضي على السواء، فهو يكشف الداخل أمام الخارج والعكس أيضا، كما أنه يضيف الفضاء الخاص إلى فضاء الشارع العام فينتفي الإحساس بالضيق لدى الطرفين وتكون حديقة المنزل الخاصة جزءً من جماليات المكان. وبفضل قضبان الحديد لم يكتشف العديد من سكان الدقي والزمالك والعجوزة أنهم يسكنون في حواري ضيقة إلا بعد أن تم هدم قصور جيرانهم الأكثر ثراء وتحويلها إلى عمارات أو بعد بناء بعض سكان هذه القصور أسوارًا بديلة في موجة التقوقع إلى الداخل التي اجتاحت المجتمع.

اليوم يستخدم الأثرياء الجدد الخرسانة المسلحة العالية لتسييج قصورهم؛ مما يعكس علاقة الريبة بينهم وبين المجتمع بقدر ما يعكس الأنانية المفرطة والضن بالفائدة على الآخرين. الحكومة تستخدم هي الأخرى في أسوار مبانيها كميات ضخمة من الخرسانة المسلحة في أشكال عشوائية مسفة ومتكبرة بضخامة كتلها الخرسانية التي توحي بالجبروت، ثم تعود لتبطنها بالرخام الذي لا يستدعي سوى الموت. وزيادة على هذه الفخامة البلهاء المشوشة بين القوة والضعف تأتي البوابات المحروسة على مدار الساعة، وأجراس الإنذار، وفوق كل هذا قد نجد قمة السور مزروعة بكسر الزجاج الذي يضفي بؤس العشش العشوائية على هذه الأسوار المتكبرة!

غلاف الطبعة الأولى من الأيك ـ كتاب الهلال ـ يوليو ٢٠٠٢
غلاف الطبعة الثانية ـ دار التنوير ـ ٢٠١٦

وإذا كان هذا حال السياج من التربص وسوء الظن والضن بالفراغ الداخلي على الخارج المختنق؛ فأية وظيفة بقيت للشرفة؟

 تبدو الشرفة غير موجودة في القصور التي يقيمها الأثرياء الجدد بالضواحي؛ لأنها تطل على فراغ داخل السور من الاتساع بحيث لا يمكن للعين المتطفلة أن تصل إلى الإحساس بوجود الشرفة، بينما اختفت تماما من المبنى الحكومي، ليس الشرفة الكبيرة فقط، بل ما نسميه التراسينة أو الشرفة الصغيرة بحجم الشباك التي تكفي فقط لدوران الباب في فضائها، هذه التراسينة كانت ضرورية، حتى لو لم يجد الموظف الوقت ليمد قامته أو يسلي عينيه فيها؛ فهي تؤدي الدور المعاكس أيضا، إذ تفسح لعين الخارج إلى الداخل وتوحي بقرب الطرفين من بعضهما البعض وتواشجهما معا.

لم ينغلق السور وتختفي الشرفة فحسب، بل تصاعدت الريبة إلى حد المطاردة المعمارية التي أهدرت ثروات طائلة في الاستثمار العقاري. في سعيها للانفصال سعت الأقلية الغنية أولاً إلى طرد الفقراء من المناطق المهمة في قلب المدن القديمة، وعندما خاب هذا المسعى لشدة تماسك المدينة تركوها وراء ظهرهم وبنوا مجتمعاتهم المعزولة على أطراف العاصمة وعلى الشواطيء، لكن المجتمع يتحرك، وسرعان ما يلحق بهم بعض من أفراد الطبقة المتوسطة العليا الذين يتمكنون من شراء فيلات مشابهة بأموال سنوات من السفر خارج مصر، ولا يكون أمام الأقلية الثرية إلا الانتقال إلى موقع آخر لبناء كمباوند مجمع آخر. يتركون الفيلات وراء ظهورهم مغلقة يستحيل تحويلها مرة أخرى إلى نقود، ويتملكون قصورًا سرعان ما يعودون للانتقال إلى أفخم منها، وهكذا.

الشراهة في الإنفاق التي تعكسها قصور الأثرياء الجدد لم تنجح في إخفاء ضعة الأصل، بل على العكس تضع علامة استفهام حول مصدر الثروة، وكذلك فإن الفخامة الرثة في المباني الحكومية الجديدة لا تتناسب أبدًا مع أوضاع دولة فقيرة.

 ومثلما تفضح الأخطاء الصغيرة طبقة امرأة مهما أنفقت على أثوابها، فإن الإنفاق الباذخ على عمارة الحكومة والأغنياء الجدد لا يضمن تأسيس مكانة مفضوحة. تعصف الأخطاء الصغيرة بنية الفخامة التي أضمرها معماريو هذا الزمان وزبائنهم المولعون بالكم، دون انتباه إلى أن الأموال التي ينفقونها على شراء الرخام لا تضمن لبناياتهم سوى اعتمادها كأضرحة تعادي الإنسان الحي وتهين حواسه!   

من فصل «بنيان الإلفة»

رابط كتاب الأيك على كيندل: