دولة الميكروباص

لا يقتصر دور الأشياء في حياتنا على تأدية وظائفها فحسب؛ بل إنها تتعدى أدوارها دون أن تنتبه هي ودون أن نخطط نحن  لذلك؛ فتصبح تعبيرًا  عن نسق حضاري وتكشف حالة السياسة والثقافة في المجتمع.

البيت ـ على سبيل المثال ـ وظيفته تحقيق الأمان والحماية من مخاطر الطبيعة ومتاعبها، لكن شكل المبنى وتخطيطه وعلاقته بغيره من البيوت  في إطار مدينة أو تجمع سكاني يعكس النسق الحضاري وفلسفة المجتمع وعلاقات القوة فيه والحالة القانونية.

 وسائل النقل بالمثل، لا تقوم بوظيفتها في اختصار الجهد والزمن فقط، لكنها تعبر عن نسق حضاري ورؤية سياسية محددة. ومن الضروري التأكيد على أن وسائل الانتقال مثلها مثل غيرها من الأشياء، قد تنشأ تلبية لحاجة ضرورية في المجتمع ثم تتحول إلى نسق ثقافي، وكمثال على ذلك عودة المجتمعات الغربية لاستخدام الدراجات في ظل أزمة الوقود أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم تحول استخدام الدراجة إلى نسق حضاري بعد انتهاء الأزمة، في ظل وجود حكومات رشيدة تخطط المدن بشكل يسمح باستخدام الدراجات في أمان، بكل ما يتطلبه ذلك من تخصيص مسارات للدراجات في الشوارع وتخصيص أماكن آمنة لانتظارها أمام المؤسسات الحكومية وداخل حرم محطات القطارات وغير ذلك من المواقع التي تجعل استخدام الدراجات ميسورًا، وفي كل يوم تجد تلك المجتمعات الرشيدة أسبابًا للتمسك باستخدام الدراجات، إما لاعتبارها وسيلة للرياضة دون الحاجة إلى إنفاق وقت خاص والمال في صالات الرياضة المغلقة وإما لاعتبارها وسيلة غير ملوثة للبيئة.

وعلى العكس من ذلك لم تكن نشأة ظاهرة الميكروباص في مصر ضرورة، بل كانت تعبيرًا عن نظام سياسي قرر الاستقالة من حياة الناس، الذين سيصبحون سكانًا، لا مواطنين، ولا رعايا، بالطبع.  هكذا جاء تخلي الدولة عن مسئولياتها في نقل المواطنين تزامنًا مع التخلي عن مسئوليات العلاج والتعليم بطرق ملتوية تطلق العنان للفوضى الاقتصادية والاجتماعية. من حياة الناس، الذين يسمون في ظل النظام المستقيل بـ “السكان” وليس “المواطنين” ولا الرعايا، بالطبع!

وقد راقبت ظاهرة انتشار الميكروباص في شوارعنا منذ بداياتها، وكتبت بعض إشارات حول النسق الثقافي الذي أوجدها، والنسق الذي أوجدته في كتابي “الأيك” كما ناوشت الموضوع أكثر من مرة في مقالاتي، في “أخبار الأدب” و”المصري اليوم” وغيرها على مدى أكثر من عشرين عامًا، وفي كل مرة كنت أجد معنى جديدًا لم أفطن إليه في المرات الماضية.

ولم يزل حلم تخصيص كتاب كامل عن الميكروباص، أحد أحلام كتابتي المؤجلة.  وإن كنت أعتبر كل مقارباتي السابقة مع هذه المقاربة الجديدة اجتهادات مواطن متطفل على علوم الاجتماع والعلامات والفلسفة الظاهراتية.

تؤكد موسوعة المعارف الإلكترونية “ويكيبيديا” أن استخدام الميكروباص بدأ في الستينيات، في منطقة الهرم، لتناسبه مع قلة الكثافة السكانية، لكنه لم يشكل ظاهرة إلا في نهايات  السبعينيات.

وليس بخاف على أحد أن هذه الفترة هي البداية الحقيقية لاستقالة الدولة، وإطلاق يد “السكان” لتدبير حياتهم بحلولهم الخاصة. ولأن اللغة لا تلعب ولا يستخدمها الناس اعتباطًا، فقد جاءت تسمية الميكروباص بـ “المشروع” في الإسكندرية والعديد من المدن كإشارة إليه باعتباره مشروعًا لتشغيل الشباب، في تناغم مع ظهور باعة الشوارع ثم مستوصفات المساجد والكنائس والمراكز التعليمية.

 وبينما انهارت الخدمات الطبية والتعليمية بفعل التداعي الحر الناتج عن انسحاب الدولة، كان بعضًا من انهيار منظومة النقل العام (أتوبيس وترام وقطار) يكمن في التداعي الحر، لكن جزءًا مهمًا من أسباب الانهيار كان مخططًا وبفعل فاعل بتخريب خطوط المترو ودفن فولاذها تحت الأسفلت، لإفساح مجال لنوع من الاقتصاد الريعي يوفر لمالك الميكروباص فرصة البطالة اعتمادًا على ما يجنيه من تشغيل سيارة أو سيارتين، كما يقوم هذا النوع من النقل بتوفير بعض الوظائف للعاطلين، والأهم اقتصاديًا إتاحة الفرصة للرأسمالية الكبيرة كي تبيع السيارات الملاكي حتى اختنقت الشوارع بهذا العدد الخيالي من السيارات الخاصة.

حققت الدولة المستقيلة ما أرادته في الاقتصاد بخلقها ظاهرة الميكروباص، ليتحول هو نفسه إلى نوع من دليل اتهام ضد إدارة دولة تغيب فيها الرؤية والسياسات والخطط وتعلو فيها ظاهرة تسكين المشكلات وترقيع الخروق، ولم يصبح الميكروباص بديلاً للأتوبيس والترام فقط، لكنه صار بديلاً للمسجد والزاوية التي يحتلها المتطرفون. ومن يتابع سيرة المواجهة بين الأمن وشيوخ الفتنة طوال السنوات الماضية سيجد أن الدولة تتقدم لتسكتهم في المساجد فتظهر تسجيلاتهم في الميكروباص. ولم تشعر الدولة بالمهانة طوال سنوات لم تستطع فيها إقرار سلطتها في دولة الميكروباص الموازية، لا من حيث إلزامهم بقواعد المرور ولا من حيث إلزامهم بالصمت، احترامًا للحياد الديني في الأماكن العامة.

أما على مسوى الفرد مستخدم هذه الوسيلة البذيئة فقد جسد الميكروباص معنى الإذلال. وسواء انتبه من شجعوا هذه الرثاثة أم لم ينتبهوا، فإن خروج المواطن بالميكروباص والعودة فيه مرة واحدة في اليوم يضمن انحناءه أربع مرات: مرة عند الركوب، ومرة عند النزول ذهابًا ومثلهما إيابًا. وكلما أراد المواطن أن يتحرك أكثر يزداد عدد مرات انحنائه في اليوم. وبين مهانة الانحناء عند الركوب والنزول هناك مهانة الإقامة في هذه العلب كالمخطوف يسمع ما يقرره السائق، الذي يؤاخي بين بث التسجيلات الدينية عنوة وتعاطي المخدرات ودهس كل آداب التعامل مع الراكب وكل آداب وقوانين المرور.

وقد كانت هذه الوسيلة أفضل تعبير عن مرحلة مبارك المتأخرة، حيث لا تظهر الدولة إلا إذا ارتبط ظهورها بالرشوة. وقد ارتبط الميكروباص بالفساد ، لا من خلال الرشاوى فحسب، بل من خلال ملكية بعض صغار الضباط والأمناء للسيارات، كما ارتبط بفساد المحليات ونقابة النقل من خلال نظام الإتاوة “الكارتة”. وهكذا فإن السائق الجاني من أحد الوجوه هو ضحية من وجه آخر. سواء كان مالكًا للسيارة تطارده الأقساط  والإتاواتن أو كان عاملاً تطارده الحصة المفروض تحصيلها لصاحب السيارة بعد تسديد الإتاوات فإن ساعات العمل غير محدودة، سواء للسائق البالغ أو للطفل “التباع” هي عملية إنهاك بدني ومعنوي لهؤلاء البشر.

وبين ضرورات الوفاء بالدين والإحساس بالإهانة؛ فمن الطبيعي أن تعتري السائق رغبات تعويض تظهر في البلطجة ضد شركاء الطريق، أما الركاب فهم في حكم المخطوفين يستمعون إلى ما يُبث، ويدفعون أكثر من التسعيرة، وقد لا يصلون إلى وجهاتهم لأنه يقرر تغيير مساره فجأة، وعندما يلمح الزحام في المحطة النهائية من بعيد يقرر إفراغ حمولته في أي مكان والارتداد، أحيًانًا بالصعود فوق الرصيف الفاصل بين اتجاهي الشارع!

وبينما احتفظت أوروبا والبلاد التي تحرص فيها السلطة على هيبتها بوسائل المواصلات العامة، وخاصة الترام، الذي يعمل كضابط إيقاع لحركة الوسائل الأخرى، اختارت مصر أن تكون بلا ضابط، أو تضبط شوارعها على إيقاع الميكروباص، وسرعان ما أصبح الأتوبيس الحكومي يتبع أخلاقيات الميكروباص فيتلوى كالثعبان مهددًا السيارات الصغيرة حوله، ويتوقف فجأة لالتقاط راكب من وسط الطريق، ويعود لينطلق فجأة كذلك.

ومنذ السبعينيات إلى اليوم أخذ الميكروباص يتمدد والدولة تنسحب من أمامه أو تتواطأ معه من خلال أدواتها الفقيرة الممثلة في موظفي المحليات وصغار أفراد شرطة المرور، وأمام عجزها عن كبح تيار الميكروباص بدأ التغيير في المواصفات القياسية لأرصفة المشاة ـ إن وجدت ـ فأخذت ترتفع كالسدود لتعويض العجز عن تنفيذ القانون والنظام بمنع السيارات من الصعود فوق الرصيف. والنتيجة أن الرصيف أصبح منيعًا على السيارات لكنه أصبح منيعًا على المشاة كذلك، إذ يتعذر على كبار السن والمعوقين صعود أي من هذه الجبال.

ولم يسفر الأمر إلا عن مفارقة مضحكة؛ فقد أجبرت هذه السدود المنيعة المشاة فوق الرصيف لكنه أجبر المشاة على تجاهل الرصيف ومزاحمة الميكروباص في بحر الطريق. وأمام عجز الدولة عن إلزام المشاة ظهرت أسوار الحديد التي تحدد المسارات، واتخذت الشوارع شكل السجن، وأصبحت التعبير المادي المرئي الملموس عن واقع الدولة القامعة، لكن المشاة السجناء لا يستسلمون بسهولة، إذ يواصلون بدأب الحفر تحت جدران الزنزانة، حتى النجاح في فتح ثغرات في الحديد أو خلعه وإلقائه جانبًا ليصبح جزءًا من جبل القمامة في مكان الثغرة المفتوحة!

ومن البديهي ألا تظل معاني الميكروباص الثقافية والسياسية وقفًا على الشارع فقط، فالموظف والعامل الذي يقضي في الميكروباص ساعة لا ينزل منه ويترك ما تعوده من قيم على كرسيه للراكب التالي، بل يغادر وهذه القيم عالقة به، يدخل بها إلى مؤسسته ومصنعه، حتى غدت المصالح الحكومية ميكروباصات أخرى ثابتة تنافس الميكروباصات الطائرة في الشوارع، مثلما تتنافس المراكب السياحية العائمة والثابتة في تلويث النيل!

ويبدو أن الإنسان في لاوعيه لا يختار إلا الأسوأ، فوسط  معاني الميكروباص العديدة السلبية هناك قيمة واحدة إيجابية هي الرغبة في الإنجاز التي تجعل سائقي الميكروباص يكادون يطيرون في انطلاقهم على الطريق، لكن الموظفين استبعدوا هذه القيمة، وتمسكوا بقيم الفوضى وعدم الالتزام بالقانون والعنف في التعامل في مكاتب الحكومة.

 وقتد تلقت هذه القيم السيئة أكبر دعم منذ ثورة 25 يناير 2011، وهذا طبيعي؛ لأن أسوأ وقائع التاريخ هي الثورات التي لا تنجح في تحقيق أهدافها. وأسوأ الأزمان هو الأيام والسنوات التي تعقبها، ففي مثل هذه الأوقات يأخذ المجتمع من الثورة فروتها وليس لحمها. والثورة تكسير لقواعد نظام ظالم، وبناء قواعد نظام جديد عادل، وعدم بناء هذا الجديد يجعل فكرة تكسير النظام قائمة طول الوقت، لا هو ينهار، ولا المواطن يستسلم بعد أن عرف سهولة الاحتجاج!

كانت قيم الفوضى تتجلى منذ البداية في عدم وجود وصف للوظائف في الحكومة يحدد المسئوليات والسلطات، الحوافز والعقوبات بشكل دقيق، وهذا يجعل الوظيفة تتطابق مع شاغلها الفرد وقوته وقدرته على التربيط مع جهات أمنية أو استنادًا إلى مكانة نقابية وقدرة على الحشد والتجييش بغير حق غالبًا. وقد تلقت قيم التكاره والإجبار دعمًا جديدًا في ظل الوضع الرخو، سواء في العلاقة بين الرئيس والمرءوس أو بين الموظف والمتردد على المكتب الحكومي طالبًا خدمة.

بعد 25 يناير لم تعد السلطة التنفيذية هرمية، أي ليست في صالح المستوى الأعلى لتنزل سطوتها على الأدنى، بل أتاحت فروة الثورة قدرة القاعدة على الحشد لتحدي السلطة الأعلى، غالبًا السلطة التي تحلم بالتغيير، لا السلطة الفاسدة التي تماليء القاعدة وتقتسم معها المنافع، كما فعلت دولة مبارك الرخوة.

وهكذا لم يعد المدير الكبير هو الذي ينظم إيقاع الحركة في المنشأة الحكومية مثلما لم يعد التروماي الضخم ما ينظم إيقاع حركة المرور في الشارع، بل عربات الميكروباص الصغيرة القادرة على انتزاع أرباح من مؤسسة خاسرة والتنصل من أي قيد أو مسئولية في العمل.

وفي الوقت الذي تتعاظم فيه قوى التكاره والإكراه، بل وتبادل السباب المجاني، والضيق والثورة لأتفه الأسباب في المؤسسات الحكومية، تتعاظم المثابرة على صلاة الجماعة وتقديم الوعظ الإجباري؛ ففي كل مكاتب لصوص الحكومة تقريبًا تجد تليفزيونًا مفتوحًا على وعظ أو تلاوة لا يستمع إليها من يبثها، بل يُشهرها مثل فزاعة في وجه رواد مكتبه تمامًا كسائق الميكروباص المدمن الذي يبث التلاوة والوعظ عنوة في سيارته!

وكالميكروباص، لا توجد خطط ينبغي السير عليها أو أهداف ينبغي الوصول إليها، بل مجرد الحركة العشوائية والاندفاع في مسار، حتى إذا انسد أو ثبت خطأه يتم الدوران والعودة إلى الخلف دون عقوبة أو حتى اعتذار عن الجهد والمال المهدر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نُشر في مجلة “الثقافة الجديدة” عدد يونيو 2015 �������I�?;\