صلابة الشخص ..ليونة النص

نجيب محفوظ مسيرة يراها البعض رحلة في الجغرافيا من الجمالية إلى ستوكهولم، ويراها البعض الآخر رحلة في التاريخ من “كفاح طيبة” إلى أحلام فترة النقاهة. وكلا الرؤيتين صحيح، الأولى ترى مسيرة الشخص، والثانية  تعتد بسيرة النص.

وكلاهما (النص والشخص) مختلف مع الآخر اختلافاً، كان المسئول عن الوصول بنجيب محفوظ إلى هذه المكانة.

الشخص صلب كالفولاذ، وقد اختبرت صلابة محفوظ مرتين: في مواجهة العتمة والضوء الساطع. لم ينكسر نجيب محفوظ طوال سنوات بقائه في الظل، وهو يرى في الواجهة يوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس، بل ومحمد صدقي. ولم تذهب نوبل بعقله، الجائزة صاحبة الرصيد المؤلم في إفساد حيوات وإباعات الكثير من الكتاب على مر تاريخها، من حصلوا عليها ومن تطلعوا إليها ولم ينالوها.

استفاد نجيب  محفوظ من تمرينات الصلابة التي درب نفسه عليها لمواجهة الظل، في مواجهة النور الباهر، فلم يكف عن الإبداع ولم يغير عاداته بعد نوبل، واستطاع أن يُعلم الإعلام احترام عزلته، على الرغم من أن معظم الحاصلين على نوبل يدعون استحالة تحقيق هذا الهدف!

وفي مقابل هذه الصلابة النفسية النابعة من قوة الاستغناء، كانت لنص محفوظ ليونة ونعومة الحرير. وهذه النعومة هي التي جعلت النص المحفوظي دائم النمو والتجدد؛ من الروايات التاريخية إلى الاجتماعية، فالرمزية والعبث، والتقاطع مع الصوفية، وملامسة الشعر.

ولو كان للنص المحفوظي ذات الاعتداد بالنفس والصلابة التي لشخصه لانتهى، مثلما انتهت العديد من المشروعات الفكرية والإبداعية، التي تطابق اعتدادها بنفسها مع اعتداد كتابها بأنفسهم. ولو كان محفوظ أحد هؤلاء لصار الأسوأ حظاً بينهم، لأنه الأطول عمراً وكان سيرى في حياته المصير السيء لنصه، لكنه وهو يوغل نحو المائة لم يسأم، ولم يسأم منه قارئه، لأن نصه المتواضع تعلم كيف ينمو ويحافظ على قوة الإدهاش فيه.

لم يتكيف النص المحفوظي مع تطور تيارات الإبداع فقط، لكنه تحول من حيث الجنس الإبداعي، ليتواءم مع قدراته البدنية؛ فعندما لم تعد هناك صحة لعمارة روائية مركبة كانت “أصداء السيرة” و”أحلام فترة النقاهة” مقترحاً بديلاً،  يعتمد على الشذرة الصغيرة، المستفيدة من حكمة الصحو وجنون النوم.

وهذه الليونة في النص تفشي سر الصلابة الشخصية لدى محفوظ، فلا التجاهل ولا التكريم، ولا المرض يمكنه أن ينال من تصميمه على الكتابة، لأنها حاجة وجودية لدى الممسوسين بها، كحاجتهم إلى التنفس والشرب والأكل.

وهذا هو الدرس المحفوظي الأهم. eZ��2�