كان أنف العابس يزداد رهافة يومًا بعد يوم

الإضاءة الخافتة ذاتها، الفساتين الباذخة المعتادة للنادلات في عشاء يوم العطلة، لكنه لم يعد يشعر بحنين أو فضول. لا يميز طبقًا من طبق، يومًا عاديًا من يوم عائلي، ولم يعد يميز نادلة من طارئة. ولم يعد ذلك الزهد مبهجًا ولا محزنًا لأنه لم يحدث فجأة. كان يتقدم في السن بمثل الراحة التي يلمسها المصطافون على شاطئ جيد التمهيد، عندما يتقدمون من المياه الضحلة باتجاه الأعماق مستشعرين ارتفاع المياه من الكعوب إلى الكواحل حتى تغمر آذانهم مستسلمين لدغدغة برودة صارت مألوفة. 

غلاف البحر خلف الستائر ـ طبعة كندل وجوجل بوكس

هواية التقاط كسر الكلمات وتركيبها جعلته يتقن اللغات كلها، ومنحته ثرثرات العيون  مهارة قراءة الوجوه. صار بوسعه تمييز سحنة من سحنة و لسانًا من لسان وتحديد الأماكن التي طرأ منها النزلاء والنُدُل، ليس مجرد التعرف على الدول التي يحملون وثائق سفرها، بل صار بوسعه تحديد القرية أو المدينة الصغيرة أو الحي الذي جاء منه الطارىء والطارئة، النادل والنادلة. 

يتوجه إلى المطعم في الصباح، يقضي يومه مع العابس حتى وقت إغلاق المطعم في منتصف الليل. يرفع قدميه ويحاكي العابس في جلسة القرفصاء على الكرسي، يُثبِت، مثله، الكوع على الطاولة بينما يحتوي جبينه ويهدهده براحة يد مرتعشة. وبين الحين والحين يأتي من يضع أمامهما فنجاني القهوة التركية أو يحمل طبقين لم يمسّاهما. 

تمضي الساعات من دون أن يتبادلا كلمة واحدة، وعندما يعبر أمامهما شخص ينطق باسم البلد الذي ينتمي إليه. يقولها بحسم ولا مسئولية مثل عراف ينقل ما تمليه الجن، ويومئ له العابس مؤّمِنًا بتحديقة من عينيه المطفأتين. كان أنف العابس يزداد رهافة يومًا بعد يوم. وصار تمييز أوهن خيط رائحة تسليته الدائمة. يطوح برأسه إلى الوراء ويُشرع  فاه وأنفه  لشهيق عميق، يحبس الهواء في صدره قليلاً ثم يبدأ في تسريبه ببطء وينطق بهوية صاحب الرائحة. يعرف النادلة البوسنية من الجاوية، الطارىء الكراكاسي من الفييني، خادم بومباي من خادم الحبشة. 

شرع يقلده؛ يغلق عينيه وأذنيه ويشهق ثم يبدأ في تفحص روائح الهواء المحبوس. اكتشف أن الناس وإن زهدوا أماكنهم أو زهدتهم الأماكن، لا يغادرونها من دون أن يعلق بهم شيء من روائحها؛ رائحة وردة قطفها الطارىء أو سحقها في طريقه، رائحة سمكة أكلها، رائحة عطر محلي علق بوجهه من آخر قبلة تلقاها قبل المغادرة، أو دبق عرق دابة ركبها حتى أول محطة قطار. 

ـ دارفوري. 

قال، فأومأ العابس الأعمى باتجاه الرائحة مستبشرًا؛ حيث يجلس شاب أسمر نحيل تقف أمامه النادلة بقامتها وعنقها الملكيين. 

ـ هل تحب أن تجرب الآيس كريم سيدي؟

همست بجفون مسبلة كما لو كانت تقرأ آية من كتاب مقدس. وأجابها الدارفوري الشاب مرحبًا بعينين مفتوحتين وابتسامة كاللغز، محدقًا في البطاقة النائمة على صدرها.

ـ مالو؟

تساءل الدارفوري مستغربًا الاسم، بينما كفكفت النادلة الوشاح الذي انزلق وترك ذراعيها عاريتين. 

ـ نعم، مالو، مالو يا سيدي.

قالت، وانسحبت على أطراف أصابعها برشاقة بجعة. تحول عنهما وتمتم بكلمة لم ينتبه إليها العابس الذي دارت رأسه بالفراغ ونهض يتلمس طريقه نحو الحمّام. نصب جذعه ومد ساقيه حتى لامست قدماه قائمتي الكرسي الذي تركه الرجل الأعمى. حفت به مالو في عبورها من أمامه. أغمض عينيه وأذنيه متناومًا؛ فحاصرته رائحة قوية، تشممها خطفًا مرتين قبل أن يشهق عميقًا ويحبسها في صدره. كانت رائحة حبة المانجو التي دستها أمه في حقيبته قبل أن يودعها في ذلك اليوم البعيد.

ـــــ

الفصل الأخير من رواية «البحر خلف الستائر»

رابط جوجول بوكس:

https://play.google.com/store/books/details?id=15CCDwAAQBAJ

رابط كندل:

https://www.amazon.com/%E2%80%ABالبحر-خلف-الستائر%E2%80%AC-Arabic-القمحاوي-ebook/dp/B07H3G8C76/