كراكيب الروح

قناطر حياتنا

العمر نهر. لا يمكن لمائه أن يمضي في الاتجاه المعاكس.

جميعنا نعرف ـ ولو بالتقريب ـ المنبع، لكن أحداً لا يمكنه أن يتوقع مكان المصب. ولابد أن البشر كانوا سعداء كالبهائم، قبل أن يبنوا  القناطر والجسور، التي تقسم مجرى نهر الحياة وتحدد  محطاته.

التقويم، هو الاختراع الأسوأ قبل الديناميت. ونهايات وبدايات الأعوام هي القناطر الوهمية والجسور، التي بنيت فوق أعمارنا، لا لتتحكم في ماء النهر ولا ليمر أحد من فوقها، بل لتنبهنا إلى طول المجرى؛ هي سلميات أصابع أعمارنا التي تنبهنا إلى محدوديتها. ولم يجد البشر من وسيلة لمقاومة رعب التقويم سوى الاختباء  في الملذات، فيما صار يسمى حفلاً.

الشراب وإرضاء آلهة الجنس، كان جوهر الاحتفال  عندما كان البشر أوفياء لأنفسهم وإحساساتهم.. بالسكر يقللون وعيهم بالفناء إلى أقصى حد ممكن، وبطقوس حفظ النوع يقاومونه. وهكذا يعبرون من تحت الجسر إلى سيولة الزمان على مدار عام آخر جديد.

الآن، بعد أن تعلم البشر الاحتشام، وتباينت حظوظهم من السعادة والحزن، انقسموا إلى نوعين من الحزانى: نوع محتفل، يختفي في الشراب والاشتهاء المؤجل في ظلام الحفل، وآخر يحدق في النور، استعذاباً لحزنه، أو ربما ليتأكد أن عبء الحياة في سبيله إلى الانزياح.

***

حفلي الخاص

ولدت قبل السيد المسيح بأيام، أي أنني مجبر على عبور قنطرتين في شهر واحد، ولهذا أكره ديسمبر مرة زيادة على كراهية مواليد الشهور الأخرى له. ولا أجد في نفسي القدرة على الاختفاء في حفل أو التحديق في قطار العمر بينما يعبر الجسرين الخطرين. فقط، أعود إلى أمي، وفي كل عام أكتشف أن محاولة إجبار ماء النهر على التدفق في الاتجاه المعاكس، ليست دائماً عملاً أخرق.

***

أصابعي وأصابعهم

لقناطر السنوات وظيفة مهمة لدى سيدات البيوت؛ فهي تحملهن على التخلص من بعض الأشياء غير الضرورية في بيوتهن.

حملة التنظيف لاستقبال العيد، توفر انعتاقاً مؤقتاً من عبودية الكراكيب، التي يمارسها الناس على مدار أيام العام.

ومثل ربة بيت مهذبة، رأيت أن أستعد للاحتفال بحملة تنظيف لذاكرة الكمبيوتر، الذي ألاحظ منذ مدة أنه يستجمع وعيه بصعوبة كلما وخزته لأوقظه.

هالني حجم ما أحتفظ به من ملفات. كل هذه الثرثرات ارتكبتها الألسن المركبة في أصابعي؟!

لا أتوهم أهمية لما أكتب، ولا أعرف أي نفع يمكن أن أجنيه من وراء مقالات صحافية، وأخبار وتحقيقات وحوارات أجريتها مع بؤساء مثلي، لكنها كلها تنام هناك، وتثقل رأس الجهاز التعيس.

الأسوأ والأثقل ـ على ذاكرة الكمبيوتر ـ من هذيان أصابعي، هو هذيان أصابع الآخرين، الذين التقطوا لي الكثير من الصور بتأثير إغواء السهولة والمجانية، التي توفرها الصور الرقمية المستغنية عن ظلام غرف التحميض، والتي تنتقل مباشرة من الكاميرا إلى الكمبيوتر.

ليلة كاملة، نصفها في تذوق بدايات المقالات عديمة النفع، ومحاولة تذكر ظروف كتابتها، والنصف الآخر في تأمل الصور واستجماع مناسبات التقاطها، لا استحساناً ولا استقباحاً، وإنما لتتبع درجة اعوجاج فمي التي تصاحب كل ومضة فلاش.

 لاحظت أن درجة الاعوجاج أخذت تتناقص ملفاً بعد آخر، حتى لم تعد ملحوظة كما في الصورة المصاحبة للنسخة الإلكترونية من هذا المقال، وقد التقطتها لي مؤخراً الشاعرة، وفنانة الفوتوغرافيا جيهان عمر،  عندما كنت أشخبط خطوطي غير الواثقة تحت إشراف الفنان محمد عبلة، في ورشة رسم مؤخراً.

عندما انتبهت إلى أن وجهي صار أقرب إلى الثبات في الصور الأحدث، أصابني خوف على تبدد خوفي. كيف سأكتب بعد أن صارت روحي خارجية إلى هذا الحد؟!

***

كراكيب القلب

من السهل أن نصدر أمر حذف يفرغ ذاكرة الكمبيوتر من الكراكيب غير الضرورية، من السهل أن تمتد أيدينا لتقليم مكتبتنا، أو إلقاء حذاء قديم ـ ولو باتجاه لا أحد ـ أو التخلص من قميص حال لونه، أو سجادة اهترأت.

لكن يداً لا يمكن أن تمتد إلى القلب لتخلصه من الأشياء غير الضرورية: صداقات انتهت ونحتفظ بها، لمجرد الوفاء إلى الماضي أو لإثبات أننا محظوظون أكثر من غيرنا، طموحات لم تتحقق، محاولات حب لم يُستجب لها، اشتهاءات لم تُشبع، وإهانات لم تُرد.

كل هذه الكراكيب تثقل القلب، الذي ينبغي أن يكون خفيفاً لاستقبال عام جديد، متاعه باهظ فيما يبدو.