يعرف عشاق السينما فيلم «عطر امرأة» الذي نال عنه آل باتشينو جائزة أحسن ممثل لبراعته في تجسيد تناقضات مشاعر الإحباط والأمل، والعصبية والحكمة. الكولونيل العائد من الحرب بروح مطفأة وعينين لا تبصران النور، يأكله إحساس بانعدام المعنى؛ فيرتدي بدلته العسكرية بكامل نياشينه ويقرر الانتحار، لكنه يفكر بتأجيل القرار إلى ما بعد القيام برحلة أخيرة.
تكلف شركة السياحة شابًا جامعيًا لمرافقته، ويعرف من الشاب أنه يعاني مشكلة تتعلق بمستقبله، حيث تضعه إدارة الكلية بين خيارين؛ إما الوشاية بزميله أو معاقبته بالفصل. الكولونيل الذي فقد الحماس للاستمرار في العيش يعثر على معنى لحياته أخيرًا من خلال الدفاع عن الشاب؛ فيتوجه إلى الكلية ويقتحم مجلس التأديب، ويلقي على مسامع أعضائه خطبة طويلة بليغة. يقول لهم إنه رأى في الحرب شبابًا في سن ذلك الشاب بُترت أذرعهم وسيقانهم، لكن هذه الأطراف يمكن تعويضها، بينما يحاول مجلس الكلية بتر روح هذا الشاب الذي يرفض أن يكون واشيًا، ولسوء الحظ لا توجد أطراف صناعية تعوض الروح.
في الفيلم تنتصر الكرامة الإنسانية، ويبتهج المشاهد بالخطبة التي أفحمت مجلس المنافقين، وأنقذت روحين: روح الكولونيل وقد وجد أخيرًا في هذا الانتصار البسيط المعنى الذي لم توفره انتصاراته الكبرى في حروب خاضها باسم المعاني الكبيرة، وروح الشاب الذي سيواصل دراسته، بعد أن كان مهددًا بمغادرة كليته كسيرًا خائفًا بذيل منكَّس بين ساقيه!
لكن الحياة ليست كالأفلام، فلا يمكن تعديل مسارها بخطبة بليغة، خصوصًا الحياة في ظل الاستبداد. بقرارات من مجالس التأديب القوية، تستمر عجلة هدر الكفاءات التي ينزوي أصحابها بذيولهم بين سيقانهم إلى برودة النسيان أو إلى ظلام الزنازين، فتذبل أجسادهم وتبقى أرواحهم سليمة أو كسيرة، بينما يتمتع بالنور من يرضخون لرغبات مجلس التأديب، يعيشون بأجساد عفية وأرواح ميتة.
الذين يضعون أنفسهم في خدمة الاستبداد يعرفون أن العلم لم يخترع بعد روحًا تعويضية، لهذا يبتكرون طرقًا لخداع ذواتهم كنوع من التسكين لآلام أرواحهم المبتورة. من يقوم بدور البطش البدني يوغل في العنف لكي تشوش صرخات الضحايا سمعه فلا يسمع همس الجزء المتبقي حيًا من ضميره. من يقوم من المستبد مقام اللسان يبالغ في الصراخ بينما يمارس الاغتيال المعنوي بحق مواطنين أبرياء كل جرمهم أنهم قالوا رأيًا مختلفًا. بوسعه أن يبث أكاذيبه بهدوء، لكنه يحاول بهذه الجلبة أن يشوش صوت ضميره، وأن يبدو مؤمنًا. في مجتمع ديمقراطي لا يوجد مذيع يصرخ، ولا تنشال مذيعة وتنهبد، لأنهما ليسا في معركة مع أحد.
المال الوفير الذي يدره الكذب لا يعيد روحًا إلى الحياة، وليس لدى «المتمجدين» أعز من الأولاد ليحاولوا من خلالهم الحصول على روح بديلة أفضل من أرواحهم. ينفقون على تعليمهم جيدًا، وهذا يمنح الأولاد الفرصة للمعرفة والوعي، بعضهم يعي البتر في الروح الذي يعاني منه والده، ويدرك مساهمته في هدر فرص الحياة لبشر لم يؤذونه في شيء، فيكون هذا الأب أول من ينال كراهية الابن.
يكتشف المتمجد أنه مثل فرعون: ربى عدوه. هناك قصص حقيقية مؤلمة للطرفين على المستوى الشخصي، لكنها على المستوى العام تكشف عن المسارات غير المتوقعة لتطور المجتمعات الإنسانية؛ فأموال الانحطاط قد تربي روحًا رفيعة، وهذا لون قاس من عقاب المنحطين.