عمارة مصر..من هنا جاء القبح

وسط القاهرة..عمارة راسخة حجمًا، تأبى العشوائية في تصميم الواجهات

على الموسوعة الحرة ويكيبيديا صفحة خاصة بحي مدينة نصر، نقرأ فيها: «مدينة نصر من أهم “المدن الجديدة” التي تأسست بعد ثورة 23 يوليو من خلال برنامج التوسع العمراني وقد تميزت بأسلوب إنشائي وحضاري وريادي للشعب المصري.

ولقد بدأ التعمير في منطقة مدينة نصر طبقاً للقرار الجمهوري (للرئيس الراحل جمال عبد الناصر) والصادر في نهاية الخمسينيات لاستيعاب التوسع العمراني بعيداً عن المناطق الزراعية، لذا اتجهت أنظار الدولة إلى التعمير شرقاً في منطقة صحراء مدينة نصر، وتم تخطيطها لتكون منطقة شرق صحراء العباسية منطقة متكاملة ذات أبعاد حضارية شاملة ومازال العمران يتزايد وتتسع رقعتها ويزيد عدد سكانها».

وررغم أن الموسوعة حرة، يشارك في صياغة محتواها كل من يريد، إلا أننا نلاحظ البلاغة الإنشائية الحكومية الزائفة والرطانة التي تتناسل على ألسن موظفي الإدارة والصحافة الميتة، يبدو ذلك في تكرار صفات «الحضاري» و«الريادي»!

صارت مدينة نصر كارثة عمرانية، ومع ذلك فالحضاري والريادي جاهز للرد!

 هذا الزيف والرضا الجاهل عن النفس هو أحد العوامل التي تحافظ على جمود القوانين واللوائح وتمد في حياتها بعد أن ثبت فشلها.

هناك تسارع غريب في تعديلات قانون البناء من السبعينيات حتى الأن (بعض التعديلات جرت بعد عامين فقط من التعديل السابق عليها) ولكن هذه القوانين تهتم في الأساس باشتراطات استخدام الأراضي، الزراعية خصوصًا. ومن هنا يمكن أن نعرف أن تسارع التغييرات لا تعكس سوى ذهنية السمسرة والتخريب المتعاظمة والقلقة منذ سبعينيات القرن العشرين حتى اليوم، بينما يترك القانون لإدارات التخطيط العمراني في المحافظات مهام التخطيط واشتراطات البناء من حيث نسبة المبني من الأرض وتوزيع الفراغات وكذلك الارتفاعات. 

ورغم صدور قانون موحد للبناء إلا أن حيًا مثل مدينة نصر لا ينطبق عليه هذا التوحيد لأسباب بيروقراطية وأمنية، مع ذلك ففوضى الارتفاعات مستمرة. وفي المسافة بين المنع القانوني واللوائحي وبين تغاضي موظفي الإدارة و«صهينتهم» عما يروه تكمن مساحة الرشوة.

جاءت مدينة نصر بشكل جديد في توزيع المساحات الخضراء وأماكن الخدمات، فعلى مسافات معقولة جدًا توجد حديقة وعلى رأسها بناء خدمي مكون من صفين من محال الخضر والبقالة. تنظيم حضاري فعلاً، دون أن يكون رياديًا للشعب المصري.

جاءت مدينة نصر كذلك بشرط يتعلق بالفراغات بين الجيران، فالبناء على ستين بالمئة من جملة الأرض ويوزع الفراغ بالتساوي من الجهات الأربع للبيت (أربعة أمتار من كل جانب). وهذا الأسلوب انطبق على أماكن مثل المهندسين، لكن ماذا حدث بعد ذلك لريادة الشعب المصري؟

الحدائق صار بعضها مساجد إضافية فوق ما في التخطيط والمحال بلا مواصفات ولا رعاية تنظيمية فصارت عششًا قبيحة عدَّل مستخدموها لتوسعتها بمختلف الخامات من الطوب إلى الصفيح والبلاستيك. 

وانفلت ارتفاع العمارات فأصبحت الطوابق الأربعة ناطحات سحاب، ولم يعد هناك التزام بالأمتار الأربعة عرضًا من كل جهة، فوقع الظلم: العمارات الصغيرة القصيرة قبل الثمانينيات ملتزمة بالمواصفات، والأبراج لا تلتزم وتتنفس على حساب القديمة الأصغر منها. وجميع طوابقها تحت الأرضية التي من المفترض أن تكون جراجات  للسيارات تستعمل كمحال تجارية ومخازن لمواد آمنة أو غير آمنة، فصارت شوارع هذا الحي، وهي الأوسع على مستوى العاصمة، جراجات مفتوحة، وساءت أخلاق السكان فلا يمر يوم في أي شارع لا يشهد مشاجرة حول أماكن السيارات.

مدينة نصر، سيرك معماري. شمس وانعدام العدالة والتناغم في الارتفاعات والفراغات وأشكال الواجهات.

بالإجمال ثبتت شناعة هذا النظام وتتمثل في:

  • انعدام العدالة بين من يلتزم بالاشتراطات والبلطجي الذي يستخدم كامل مساحته ويتجاوز الارتفاع.
  • تعريض العمارات للشمس من مختلف الجهات في بلد حره كافر.
  • وقوف كل عمارة مثل الألف بارتفاع شاهق واتساع محدود يقلل من مقاومتها للزلازل والرياح.
  • نشر فوضى الواجهات، فلا نرى واجهة مثل أخرى، ولا تتطابق ارتفاعات الطوابق وخطوط الأسقف والشرفات.
  • تحول الأشرطة البينية إلى مزابل وبعضها تم استخدامه كمحال تجارية وزوايا للصلاة، رفعت التراب والنفايات طابقًا آخر.

الغريب أن هذا النظام الذي يزكي الفردية ويقلل الحس العام بالشراكة تم اختراعه في أيام الإشتراكية ونظام الكل في واحد. وإذا كان حي ممدينة نصر قد أقيم ليكون امتدادًا لمصر الجديدة؛ فالبناة لم يحاولوا الإنصات إلى العمارة التي اعتمدها الخواجة إمبان لمصر الجديدة؛ حيث جعل الفراغ أمام الواجهة مظللاً بالبواكي التي تضاف إلى مساحة البناء من الطابق الثاني، موفرًا الظل للمشاة والمتسوقين.

كما بنى على الطريقة الإيطالية والفرنسية التي أقيمت على أساسها القاهرة الخيديوية، والتي تجعل الواجهات متراصة بلا فراغات بينها مما يخلق التناغم والتساند، وتُجمِّع الفراغات في فناءات داخلية لكل مجموعة من العمارات (مناور ضخمة) توفر الهدوء للغرف الداخلية والظل والهواء وتصلح حدائق كذلك.

من العدل والعقل مراجعة نظام التنظيم الجديد هذا، ومعالجة عيوبه التي ثبتت حتى الآن، ومنها على سبيل المثال إيجاد حل لمشاكل الزحام بإجبار السكان على إزالة الأسوار البينية بين العمارات وتمهيد الفراغات لاستخدامها أماكن انتظار للسيارت. 

ولكن للأسف، المراجعات لا تتم، مما يزكي الانطباع بأن وظيفة القوانين واللوائح هي القمع لا الراحة، والسيطرة الجاهلة ذات اليد المفتوحة للرشوة، لا الإرادة الرشيدة. 

وختامًا أراني أدس أنفي في شأن يحتاج إلى خبرة المعماريين، وأتمنى أن تعتبر عقولنا الإبداعية في هذا المجال المهم أفكاري هذه نداءًا لتحريك الراكد في أنظمة البناء عمومًا والإحلال في المناطق ذات القيمة التاريخية.