إهدار الضمير والوعي

بوتيرو

«الاستبداد هو نار غضب الله في الدنيا، والجحيم نار غضبه في الآخرة. وقد خلق الله النار أقوى المطهرات فيطهر بها في الدنيا دنس من خلقهم أحرارًا وبسط لهم الأرض واسعة وبذل فيها رزقهم، فكفروا بنعمه ورضخوا للاستعباد والتظالم». 

هكذا رأى عبدالرحمن الكواكبي في الاستبداد عقوبة إلهية، فرغم أن كتابه «طبائع الاستبداد ـ ١٩٠٢» لم يزل أهم مؤلف عربي حتى الآن تناول الظاهرة نفسيًا واجتماعيًا وسياسيًا بوصفها ظاهرة بشرية، ورغم أنه قدم مبحثًا لامعًا في الاستبداد الديني وتحالفه مع الاستبداد الزمني،  إلا أنه لم ينج من الرؤية الدينية لهذا الشأن الدنيوي جاعلاً  من الاستبداد عقوبة إلهية. وخطورة هذه النظرة هي فيما ينتج عنها من امتثال وقبول، لأن العقوبة الإلهية تطهير من الذنب. 

 لكن هذه المقولة العاطفية لا تقلل من شأن الكتاب الذي فضح آليات القهر وتنبه إلى أدواته؛ فالمستبد ليس شخصًا. ليس بمقدور شخص واحد أن يستعبد أمة، ورغم أن هناك في العادة شخص واحد هو قمة هرم الاستعباد الغاطس، إلا أن الفعل تقوم به منظومة متشابكة ومتراكبة من «المتمجدين» طوبة فوق طوبة، يتقاسمون ما يرشح لهم من المجد والمال. 

كيف اشتق الكواكبي لفظة «المتمجدون» لوصف الساعين إلى السلطة؟

يقول إن المجد مفضل على الحياة عند الملوك والقواد بصفته وظيفة، وعند النجباء والأحرار بصفته حمية، بينما الحياة مقدمة على المجد عند الأذلاء بطبعهم، وبين نوعي البشر (أصحاب المجد وأهل الذل) يأتي المتمجدون أي الذين يسعون للانتساب للمجد، ويتقلدون من الجبَّار سيوفًا تشعرهم بأهميتهم. ويصير الرجل مستبدًا صغيرًا في كنف المستبد الكبير، يحوز المنافع وتتباهى زوجته بمكانتهم الجديدة بين الجيران، ويبدون بمظهر الأحرار الذين لا تُصفع لهم رقاب، لكنهم ليسوا أماجد في الحقيقة، بل مدعون لمظهر المجد، ويحملهم هذا المظهر الكاذب على تحمل الإهانات التي تقع عليهم من المستبد والحرص على كتمها.

عبد الرحمن الكواكبي

 قبل هذا العربي النابه الكواكبي، حلل الفرنسي إيتيان دو لابوسيه وسائل الإخضاع في مقالة فلسفية بعنوان «العبودية الطوعية ـ ١٥٤٧» وكلاهما فضح المتمجدين الذين هم وقود القهر، الذين أهدر المستبد ضميرهم فصاروا وحوشًا، وقد وصل انعدام ضمير وإنسانية المتمجدين في روما القديمة إلى حد الاستمتاع بمشاهدة الأسود وهي تفترس البشر أمام أعينهم.

 هؤلاء هم أدوات الاستبداد بكامل وعيهم، لم يسقط عنهم سوى الضمير، ولو حل أحدهم محل الجالس على ذروة الهرم فسوف ينتقم لكل الإهانات التي وجهها له رؤساؤه السابقون. وهكذا كانت ممالك الاستبداد القديمة تدار. لكن تحولات أوروبا نحو المساواة جعلت الديمقراطية نظامًا أكثر أخلاقية فرض نفسه على العالم، وأصبح على المستبدين مجاراة هذا النظام ولو من حيث الشكل بوجود صندوق انتخابات للحاكم ولهيئة منتخبة تحت اسم برلمان أو مجلس الشعب أو أي اسم كان، ولكي تأتي الصناديق بما يرسخ الاستبداد، لابد من شراء الرضا.

الوسيلة الأجمل لشراء رضا الأغلبية يستخدمها المستبد العادل الذي يوفر الطعام والعلاج والسكن والوظيفة والدفاع عن البيت؛ فيعود بالدولة إلى صيغة البيت، يصبح أبًا وبوسعه أن يحمل شعبه إلى النار، وقد أسست هذه الحقبة مصريًا لهدر في الوعي عظيم، واستمر الاعتقاد بأن الأب على صواب دائمًا لدى نسبة لا بأس بها، حتى بعد أن بدأ الأب بالتخلي عن أبنائه، لكن هناك في المقابل نسبة هائلة ترى أن الأب لم يعد أبًا، ليس في مصر وحدها، بل في كل بلاد الربيع العربي، وكان لابد من اللجوء إلى كل الحيل لهدر وعي هذه الغالبية عندما تقف أمام صندوق الانتخابات. الدين الذي يحمل الناس على الخوف من قوة جبارة يمكن أن يفيد عندما «يجر العوام إلى نقطة يلتبس عليهم الفرق بين الإله المعبود بحق وبين المستبد المطاع بالقهر» كما يقول الكواكبي.

 لجأت الأنظمة كذلك إلى زيادة منافع المتمجدين من أدوات السلطة في الوظائف الكبرى والإعلام، مع خلق طبقة من المتمجدين المعدمين الذين يسبحون بالحمد على الرغم من أن إنسانيتهم مهدورة، هؤلاء هم المسجلون خطر والمساجين الذين يتم إطلاقهم على المظاهرات السلمية. يستفيد المتمجد المهدور وجبة وإعفاء من بعض العقوبات، لكن فائدته النفسية عظيمة، فهو يفرغ قهره في هؤلاء المحتجين الذين يأكلون ويلبسون أفضل منه.