أستمتع هذه الأيام بقراءة مخطوط ترجمة الصديق والروائي أحمد عبداللطيف لكتاب «القارئ الأخير» للأرجنتيني ريكاردو بيجيليا، والذي سيصدر قريبًا عن منشورات المتوسط. الكتابة عن القراءة ممتعة في كل الأحوال، وقد ترسخت كجنس أدبي، لكن كتابة ريكاردو في هذا الكتاب أكثر إمتاعًا، وأثقل وزنًا من كتابات ألبيرتو مانغويل . لا يحفل الكتاب بالمعلومات فحسب؛ بل يقدم ثيمات أقرب للعمل الإبداعي، ويعيد بناء حياة النص مع حياة كاتبه ومع عصره. وقد استأذنت المترجم في نشر هذا الفصل «الناسخة» على موقع الأيك، عن علاقة الكاتب بالمرأة ناسخة أعماله وحبيبته. الكاتب بين العزلة الضرورية والرغبة في اعتراف امرأة محبة،، والناسخة بين الوظيفة والحب.
الناسخة
ليلة اللقاء الأول، شيّد كافكا خياليًا صورة قارئة مرتبطة بمخطوطاته. صورة سنتمنتالية تربط الكتابة بالحياة. المرأة الكاملة من منظور كافكا (وليس من منظوره وحده) ستكون حينئذ القارئة المخلصة، قارئة تعيش حياتها لتقرأ وتنسخ مخطوطات رجل يكتب.
إنه تقليد كبير: يكفي أن نفكر في صوفيا تولستوي التي تنسخ سبع مسودات كاملة من الحرب والسلام (في النهاية كنت تعتقد أن الرواية روايتها وبدأ الشقاق الوحشي مع الزوج). يجب قراءة يومياتها ويوميات زوجها. إنها حرب زوجية.
ولو ضربنا أمثلة أخرى بقارئات/ ناسخات روسيات، يمكن تذكر حكاية دوستويفيسكي، الذي يعرفه كافكًا جيدًا. هذه لحظة فريدة ( كتب عنها بوتور نصًا شديد الجمال) فيها، مضطرًا بسبب ديونه، يكتب في نفس الوقت الجريمةو العقاب والمقامر (الأولى في الصباح والثانية في المساء) ويقرر التعاقد على مختزِلة، آنا غريغوري سنيتكينا. وبين 4 و29 أكتوبر 1866 يملي عليها المقامر، وفي 15 فبراير 1867 يتزوجها بعد أن طلب يدها في 18 نوفمبر: بعد أسبوع من الانتهاء من الكتاب وبعد شهر من التعرّف عليها. سرعة ديستويفسكية (وموقف كافكاوي). المرأة فتنها مجرد رؤية قدرة الرجل على الإبداع. المرأة افتُتنت بينما تكتب ما يمليه عليها.
وهناك فيرا نابوكوف. الظل الروسي، المرأة التي تسير بمسدس لتحمي زوجها، ومساعِدته في دروسه في الكورنيل Cornell (وهي الكلمة التي يستخدمها نابوكوف عند تقديمها) وهي، قبل أي شيء، الناسخة، التي تنسخ عددًا لا نهائيًا من المخطوطات، التي تنسخ مرة وراء مرة الأوراق التي يكتب عليها زوجها الرواية الأولى من رواياته. وبالإضافة، هي التي تكتب باسمه الخطابات. في سيرة فيرا، لـ ستايسي شيف، يمكن أن نرى الصورة التكافلية لـ امرأة الكاتب، المرأة المكرّسة لحياة المبدع. فيرا تكتب كأنها زوجها. تشغل، غير مرئيةٍ، مكانه. تكتب بالنيابة عنه، تكتب له، تذوب فيه.
الصورة المناقضة لها، بالطبع، هي نورا جويس، التي ترفض أن تقرأ أي صفحة من زوجها، ولا حتى تفتح عوليس، ولا حتى تفهم أن الرواية تدور في 16 يونيه عام 1904، كذكرى ليوم تعارفهما. نورا تشغل مكانًا آخر، جنسي جدًا، على الأقل بالنسبة لـ جويس. يبدو هذا جليًا في الخطابات التي يكتبها لها. (خطابات كافكا لـ فليس تشبه خطابات جويس في نقطة محددة: يأمران المرأة عبر المكتوب بما يجب أن تفعله، بل وأحيانًا ما يجب أن تقوله وتفكر فيه. الكتابة كسلطة وتوفير جسد آخر. إنها شكل آخر من البوفارية: على المرأة أن تفعل ما تقرأ.)
لكن نورا هي الحورية، هي مولي بلوم. فكرة أخرى من المرأة. نوع آخر من الفامبيرية vampirismo موظف هنا. على أي حال، الناسخ بالنسبة لـ جويس كان… بيكيت، الذي كان سكرتيره في باريس خلال عدة شهور.
المرأة/الناسخة والمرأة/الحورية: زوجات كُتّاب. المرأة المنصاعة التي تنسخ والمرأة المميتة التي تلهم. أو أنهما نوعان مختلفان من الإلهام: التي ترفض القراءة والتي لا تريد إلا أن تقرأ. إنهما شكلان من أشكال العبودية. بالفعل، نورا هي خادمة جويس (وكانت قد عملت كخادمة في فندق بـ دبلن). على أي حال، كلتاهما خادمتان. كما التي تعبُر في نهاية “الحكم”. أو، بعبارة أفضل، مثل الخادمة التي يشير لها إلى أنه قضى الليلة يكتب.
في بورخس أيضًا الكثير من ذلك. في علاقته بالنساء كقارئات، ثمة رابط أول هو أمه ذاتها. ثم سلسلة من النساء/السكرتيرات اللاتي ينسخن نصوصه (ولنتذكر أن بورخس كان أعمى).
كل الكُتّاب عميان- في إشارة أليجورية إلى كافكا-، ليس بوسعهم رؤية مخطوطاتهم. يعوزهم نظرة شخص آخر. امرأة عاشقة تقرأ من الجانب الآخر لكن بعيونها ذاتها. ما من طريقة للكاتب لقراءة نصوصه إلا تحت عيون آخر.
وكافكا قبل أي أحد. حسّاسًا من نظرة الآخر، يقرأ نصوصه ذاتها بعيون عدو. وفي لحظات مختلفة، وكلها قاطعة، يخضع كتاباته لنظرة آخر صرف، خاصةً من عائلته، ويعاني عواقب هذه القراءة الكريهة. يكفي أن نتذكر بدايته ككاتب.
بدأ الشاب كافكا كتابة ما سيكون نسخة أولى من أميركا، جالسًا إلى منضدة عائلية، ومحاطًا بأقارب يسمح لهم برؤية ما يكتب. أحد أعمامه ينتزع منه النص، هل بسبب الفضول؟ “ثم يوجّه عبارته للحاضرين الذين كانوا ينظرون إليه: “المعتاد”؛ فيما لم يقل لي شيئًا. كنت لا أزال جالسًا، مائلًا كما كنت فوق نص لم تتضح بعد قيمته النادرة.” القراءة العدوة، النظرة الكريهة (والعائلية). ثمة مشاهد كثيرة مشابهة في يوميات. دائمًا ما يتقوض ما يكتبه لأن عيون الآخر- الكريه تقرأه.
في المقابل، المرأة ترافقه. يكتب إلى فيليس عن أميركا:
“منالضروري،إذن،أنأنهيها،لابدأنكأيضًاترينذلك،وبالتالي،وبفضلك،سأستغلكلالوقتالمتاح]…[ لأكرسهلهذاالعمل ]…[ هلتتفقينمعي؟ألنتتركيني،رغمكلشيء،فيوحدتيالمفزعة؟“ (خطاب 11 نوفمبر 1912).
هنا نعثر على حركتين: عزلة الكتابة والحاجة إلى اتصال متعلق بقراءة نصوصه. إنه يفكر في امرأة تنظر إليه بعطف، بتفاهم، وأمامها يتبنى وضع الطفل، التابع والقاصر، الذي يذكرنا برواية فيرديدروكه Ferdydurke لـغروموفيتش. “سأرسل لك “الوقاد” اليوم، لأرى إن كنتِ ستقابلينه بحنان، اجلسيه بجانبك وامتدحيه، كما يرغب هو”، يقول لها في خطاب 10 يونيو 1913. وحين يرسل إليها كتابه الأول، يكتب لها: “أرجو أن تقدّري كتيبي المتواضع. إنه الأوراق القليلة التي رأيتني أرتبها ليلة تعارفنا”.
هنا نعثر على حركتين: المرأة/القارئة/المساعدة. من جانب، نسخة المخطوطات الضروري أن تُكتب على الآلة. لحظة الاشتراكية الضرورية جدًا لـ كافكا: تخيل امرأة معشوقة، المرأة- الآلة- التي تنسخ، والتي تولي اهتمامها لهذه الخطوة القطعية.
ومن جانب آخر، القارئة والمستمعة بآذان صاغية. المرأة الجاهزة لمرافقة ما سيُكتب. إن قراءة ما انتهى من كتابته بصوت مرتفع على مسامع أحد مثالٌ كلاسيكي لهذه الحركة. ثمة شواهد كثيرة تشير إلى أن كافكا كان يحب قراءة نصوصه بصوت عالٍ. وهذا ما كان يفعله حقيقةً مع أخواته فور انتهائه من “الحكم”، كأن القراءة استكمالٌ لما كتبه في تلك الليلة. ينهض، ويعبر للغرفة الأخرى ويقرأ بصوت عالٍ ما انتهى من كتابته.
وعندما يتعرض كافكا للخديعة من فيليس في النهاية، حين تصيبه بخيبة أمل، يكتب في 24 يناير 1915 في يوميات: “طلبت مني بلا مبالاة أن أسمح لها بحمل مخطوطي ونسخه”. الآن تظهر الناسخة غير العابئة.
وفي نفس المقطع تبدو كغريبة وبعيدة: “قرأتُ لها أيضًا نصًا لي، كانت العبارات معقّدة بشكل مستفز، من دون أي تواصل من جانب المستمعة التي كانت راقدة على الكنبة، بعينين مغمضتين، وكانت تتلقى كلماتي من دون أن تنبس بكلمة”.
لم يعد بينهما أي صلة، كل شيء قد انتهى عند هذا الحد. لكن كافكا يسجّل الحركتين الموجودتين في أصل العلاقة ولا تحققهما فيليس. ولا القارئة/الناسخة، التي تنسخ ما تقرأ؛ ولا القارئة/المستمعة، التي يقرأ عليها النصوص بصوت عالٍ وهي متمددة على الكنبة.
ــــــــــ
ريكاردو بيجليا: ولد في أدروجيه بـ بوينوس آيرس (الأرجنتين) عام 1940. ويعتبر أحد أهم وأكبر كُتّاب أميركا اللاتينية في الثلث الأخير من القرن العشرين وبدايات هذا القرن. اشتهر كروائي وقاص ومنظّر أدبي، ورحل عن العالم في 2017.