المستبد على سرير التحليل النفسي

   الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يمارس العدوان كمتعة في ذاتها، وليس من أجل توفير حاجاته الأساسية للطعام والأمان فحسب، لهذا فالاستبداد هو الأصل في السلطة، لأنه الأقرب إلى غريزة العدوان الأصيلة في النفس البشرية. القانون حدث جديد في تاريخ الإنسانية يتم قبوله على مضض  كالدواء المر، ويحتاج إلى قوة لفرضه على الحاكم والمحكوم.

   كل الشعوب مرت بالاستبداد، لذلك فإن الزعم بأن الإنسان العربي عاشق للعبودية ينطوي على نظرة تحقيرية ظالمة وغير علمية. نحن تأخرنا فحسب. هناك عوامل اقتصادية ودينية وبيئية عديدة جعلت الفكر والمجتمع الغربيين يتحركان في تقدم مضطرد، بينما يمضي الزمن العربي للأمام خطوة وللوراء اثنتين بسبب ظروفه أيضًا وليس نقصًا في قدرات أبنائه العقلية أو خسة في أرواحهم. 

  علم الاجتماع عربي النشأة، أسسه ابن خلدون (١٣٣٢ـ ١٤٠٦ ) وعلى منواله نسج مفكرو الغرب حتى جان جاك روسو صاحب العقد الاجتماعي الذي يجعل من الحاكم موظفًا يختاره الناس لإدارة شئونهم، مع تقنين حرية الأفراد (تنتهي حريتك حيث تبدأ حرية الآخرين) وتبنت الثورات الشعبية الأوروبية هذه الأفكار حتى استقرت لديهم الديمقراطية. وإن كانت تتعثر الآن، فهذا لا يهز من التوافق العام على اعتبار الديكتاتورية مرضًا يعود بالإنسان إلى رغباته البرية قبل أن يهذبها العيش المتمدن.

  ويبدو أن الجماهير العربية التي أُهدرت حرياتها غصبًا، مجبرة اليوم على التسامي على آلامها لكي تنظر إلى الديكتاتور باعتباره مريضًا لا عدوًا. ربما يختصر هذا الفهم الطريق للحرية.

  علم النفس يعتبر الإنسان سويًا عندما يكون قادرًا على توزيع طاقة الحب لديه باعتدال بين حب ذاته وحب الآخرين. في بعض الحالات يوجه الفرد حبه للخارج، وهذا ما يفعله المتفانون في الحب مثل قيس، وما يفعله المتصوفة والرهبان بالفناء في ذات الله، أما الانحراف الآخر فهو توجيه طاقة الحب للذات، وهذه هي النرجسية، ولسوء الحظ فالنرجسي  هو الذي يسعى للسلطة عادة وليس المتصوف.

  الآخرون بالنسبة للنرجسي مجرد مرآة لعظمته. هكذا يمكن أن نفهم لماذا كان القذافي ضجرًا من قلة عدد سكان ليبيا، ولماذا كان يطلق نداءات الوحدة في كل اتجاه، مثل حيوان تأكله رغبة التزاوج. لم يكن في الحقيقة يبحث عن الوحدة كهدف سياسي، بل كان يبحث عن مرآة واسعة تليق بوجهه.

   لا يؤمن الطاغية بأية قيم، والجميع بالنسبة له مجرد أشياء، ولهذا يسهل عليه القتل دون الإحساس بالذنب الذي يشعر به شخص سوي عندما يهدر روحًا، . وبوسعه الإجهاز على شخص تابع مثلما يتخلص من معارض. ورغم أن أفراد الحاشية يرون هذه الحقيقة، فهم يتفانون في تعظيم المستبد، ويشكلون سنده المادي، ونادرًا ما يشذ على القاعدة أحدهم.

وأما السند المعنوي للمستبد فيستمده من التماهي مع الوطن. أنا الوطن والوطن أنا، وبالتالي تكون كل معارضة لأفعاله جرم تآمر ضد الوطن. هذا الاحتماء بالوطن والتذرع به يوفر له مبررًا آخر لإهدار الدم بقلب مستريح. 

  وتخبرنا تجارب التاريخ بأن قوة بطش المستبد وقسوته تتناسب طرديًا مع عجزه عن إدارة المجتمع، كلما زاد عجزه زاد بطشه.

ويتوازى هذا العجز مع العجز في مواجهة القوى الأجنبية التي تحميه وتهدده وتبتزه باعتبارها سنده المأمون، كلما خسر في الداخل منحها ما تطلب وكلما منحها أكثر تضاعفت خسارته للداخل. وعند حد ما من التدهور تسقط  السلطة وينكشف مع سقوطها خواء المجتمع.

ينفضح الهدر الذي مارسه المستبد ضد عافية الوطن، وقد عرف العرب هذا الافتضاح في العراق ولم يتعظوا، وأهدروا فرصة التغيير التي عرضتها انتفاضات الربيع الأولى ولم يتلقفوها، وهي الدواء.