ثلاثية مواجهة الهدر: القتال، الهروب، والتجمد

فرناندو بوتيرو

   في عام ٢٠٠١ أصدر عالم النفس اللبناني مصطفى حجازي كتابه «التخلف الاجتماعي..مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المهدور» ثم أتبعه عام ٢٠٠٦ بكتاب «الإنسان المهدور.. دراسة تحليلية نفسية اجتماعية» ثم توالت دراساته التي يركز فيها على علم النفس الاجتماعي، بما يوظف علم النفس في قضايا التنمية من خلال دراسة تأثير الاستبداد السياسي في تعطيل ملكات الإنسان وجهوده، أي هدر الإنسان. 

  رغم الأهمية الشديدة لدراسات حجازي، إلا أن انتشارها انحصر في النخبة المثقفة والأكاديميين، بينما يصح أن تكون موضوع الساعة على مستوى الوطن العربي؛ فهذه هي مرحلة الهدر الشامل والعميم، بعد تحويل تطلعات الشعوب إلى حروب مستعرة أو خوف جنوني من الانزلاق إلى تلك الحروب. 

د.مصطفى حجازي

  من العدل الاعتراف بأن الهدر ملازم لوجود الإنسان العربي؛ فهو لم يأخذ فرصته كاملة في تفجير طاقاته، ولم يشعر بأنه سيد واقعه وصانع مصيره، إلا أنه ذاق هذا الإحساس ولو بشكل جزئي في ظل توهجه في مقاومة الاستعمار الأجنبي، وفي لحظات الصعود السياسي القصيرة بعد رحيل الاستعمار. بعد التنكيل بالربيع صار الإنسان العربي ريشة في مهب الريح. اكتملت فيه شروط الهدر بما هو تعطيل للقوى وانتقاص القوة والمكانة، قوة الفرد ومكانته وقوة دول كانت منيعة فاستبيحت أو كانت عزيزة فذلت إلى حدود الخطر الداهم. 

   لا يستسلم الإنسان للهدر مباشرة؛ فهو ككل الحيوانات لديه آلية للتعامل مع التهديد والاعتداء تتمثل في ثلاثية «القتال، الهروب، والتجمد». يتوجه الجسم لآلية القتال حينما يستشعر شبه التكافؤ مع الخصم، أما في حالات تعذر المجابهة فإن الآلية البديلة تكون الهروب، كأن يفر المرء للمنفى في الداخل أو الخارج، وكذلك يمكن أن يلجأ إلى الرضوخ أو التجمد بالاستسلام أو التبلد، في انتظار اللحظة المناسبة للمواجهة، وبانتظار تلك اللحظة ينتشر العنف في مسارب جانبية، تأخذ أشكال  سرعة الغضب والتوتر الزائد في مواقف بسيطة.

  الخيار الصحي الوحيد، وهو المقاومة، لكنه يكون مستحيلاً في مواجهة القوة الغاشمة، والهجرة يقدر عليها الجميع، فلا يبقى أمام الغالبية سوى التجمد، وهكذا يصبح الاكتئاب سمة للإنسان المهدور. تتعطل داخله نزوة الحياة، ويحفز في الوقت ذاته نزوة الموت بفعلها التدميري. 

   لا يوجد عربي له نصف عقل يخلو من الاكتئاب، اللهم باستثناء القلة المنتصرة القامعة ومعها القلة الإرهابية التي تتوهم أنها تقاوم تلك القوة القامعة، لكن القلة الإرهابية لا تتمكن إلا من حرق نفسها والضحايا المكتئبين. 

  وللاكتئاب علامات يمكن من خلالها لكل إنسان، أن يشخص حالته بنفسه من خلال المدة التي تلزمه كل صباح للمفاوضة مع نفسه لإقناعها بمغادرة الفراش؛ فالاكتئاب يدفع إلى السلبية المتمثلة في صعوبة المبادرة، واعتبار أبسط المهام أعباءً كبيرة وثقيلة.

  ومن أسوأ ما يفعله الاكتئاب هو إغراق المهدور في الإحساس بالذنب عن الفشل، وهذا يجعله أسيرًا داخل قيد مزدوج: انسداد آفاق الدنيا الواقعية، وجلد الذات وتحقيرها من جانب آخر.

  لكن حجازي يلفت النظر إلى أن تاريخ الشعوب المقهورة يعلمنا ألا نغتر بالسكون الظاهري، فهذا السكون ليس سوي قناع دفاعي؛ الأمر  الذي يفاجيء المستبد، ويفاجيء الراضخين أنفسهم، ساعتها تبدو آليات القمع التي تم فرضها كقشرة هزيلة سريعة التفتت. وقد تستفيد أجيال تالية بهذا التغيير، لكن أحدًا لا يستطيع استعادة حياة من هرموا في الهدر.