حصاد نفي اللغة العالية

يتساءل البعض عن سر الاهتمام بفديوهات المقاول الهارب.

سره ليس في المعلومات بالتأكيد، بل في اللغة.

لو حاجج محد علي ألف مفكر لرجحهم، ليس لقوة لغته وانسجام حججه ومنطقه، بل على العكس تمامًا، لافتقاده المنطق. ، وهو بهذا الافتقاد ابن المكان وهم الغرباء. لغة الفكر منفية وليس لدى المشاهدين صبر على فهم الحجج المنطقية التي يسوقها مفكر، بينما يجلس محمد علي فوق حصاد سنوات من اللغة الشعبوية المعادية للمنطق، اللغة الفاجرة في الخصومة وفي التأييد، ووهو تمتع بالأداء الشعبوي الذي يخلط بين شراسة اللغة وقليل من الأنثوية في لغة الجسد المذكر. (التقصيع الذي يتصور أولاد الحارة أنه دلالة تحضر عندما يفتح الله عليهم بالارتقاء المادي).

كل شيء يبدأ في اللغة. وقد بدأ الانحطاط السياسي والفُجر في الخصومة في برامج التوك شو التي يتقاضى نجومها أرقامًا لم يعرفها نجوم الإعلام العابر للكوكب من مذيعي bbc و cnn ثم صار لهذا العنف نجوم من الفقراء مهدوري الحقوق الذين تم تسليطهم على المعارضين الوطنيين، بل وعلى الزعماء العالميين الذين لا يتوافقون مع الإرادة السياسية.

ذاكرة اليوتيوب عامرة بنجوم من هؤلاء، بينهن أم شيماء ساحقة باسم يوسف ومنى بحيري ساحقة أوباما. العنف اللفظي بهدف سحق الخصم الذي مارسته أم شيماء ضد باسم يوسف، مارسته منى بحيري ضد رئيس دولة عظمى. 

  ومنى بحيري هي السيدة «شت آب يور ماوس أوباما» أو «انكتم يا أوباما» بلغة الضاد. ظهرت في عدد من مقاطع الفيديو بالإنجليزية، وبدت كوميدية من شدة عدوانها على لغة شكسبير. كل من أعادوا نشر فيديوهات بحيري على صفحاتهم الشخصية وكل من استضافوها في برامجهم لم يأخذوها على محمل الجد، لكن السيدة لم تكن تمزح. كانت مختلفة مع الرؤية الأمريكية في أشياء، لا أحد يذكرها، لكنها على أية حال كانت نجمة.

   هل يوجد تخطيط وراء الدفع بفيديوهات أم شيماء ومنى بحيري، ابتداءً من تصويرها في الشارع وانتهاءً باستضافتها في برامج تليفزيونية؟ هذا أمر يمكن الجزم به، لكن انتشارها على صفحات التواصل ربما كان عفويًا من باب الاستظراف. 

  وسنحتاج إلى بحث لمعرفة ما إذا كان العقل الذي دفع بالسيدتين مسئولاً كذلك عن المحتوى الذي خرجت به كل منهما، أم أنه اكتفى بالدفع بالسيدتين وتعظيم شهرتهما. هذا التفصيل قد يكون مفيدًا في دراسة ملابسات الالتفاف على ثورة ٢٥ يناير، وهي ليست منفصلة عن الربيع العربي، ولا عن الربيع العالمي الذي شمل اليونان وإيطاليا وإسبانيا وأمريكا، وله سمات موحدة أساسها غياب القيادة وحضور الصورة.

  هناك العديد من الدراسات الرصينة التي تدرس أثر الصورة في تضليل المجتمعات حسنة التعليم. منذ منتصف السبعينيات بدأ فلاسفة ومفكرون لهم وزنهم في نقد الصورة، التي قادت الإعلام نحو العاطفي لا العقلي، نحو الفوضى الفكرية لا التفكير الذي تحكمه الأطر.

  الصورة وحش مسيطر، مفضل على اللغة. من يبدو طريفًا أفضل ممن يفكر على نحو سليم. وقد كان لهذا الوحش أثره المدمر في مجتمعات حسنة التعليم، فما البال في مجتمع تنهش الأمية كبده! كما أن سيدات السب في فيديوهات الشارع لسن مجرد ظريفات بمعايير الطلة التليفزيونية لنجوم الإعلام والثقافة، هن عجائبيات وكوميديات يقلن ما يحلو لهن من منطلق الحق في التعبير، ومن منطلق ذلك التعاطف الطبيعي مع الأمية المرتبطة دومًا بالفطرة السليمة.

   احتراف الردح والتجريس على كل حال لم يكن اختراع الثورة المضادة ، بل دخل إلى مجال الصورة التليفزيونية قبل نحو عامين من ٢٥ يناير، في شكل لون من برامج «عرض الرجل الواحد» الذي أدخله أنس الفقي على ماسبيرو بهدف إنقاذ النظام الذي بدأت علامات تهاويه في إضراب المحلة عام ٢٠٠٨، ولكي نعطي المهنيين التليفزيون حقهم، فقد تم تنفيذ الخطة بصحفيين مستعدين لهذا الدور، وليس بمذيعي التليفزيون الرسميين، وكان أجر أحدهم عن برنامج يساوي أجر عشرين مذيعًا محترفًا.

تولى من أسميتهم وقتها «نجوم الأمنعلام» الشخط في المشاهدين وتجريس الخصوم بالصراخ وإحاطتهم بسور من الفضائح يمنع التفاف الناس حولهم. والغريب، أن هؤلاء عبروا التقلبات بعد ٢٥ يناير، لكن ظهور بحيري وأم شيماء كان تطويرًا جديدًا يرسخ هذا الأسلوب في التعبير، وينفي اللغة العالية بعيدًا.

 وبدت مهنة التجريس الشعبية أكثر كفاءة من نظيرتها التليفزيونية؛ فالوحوش المجوعة أكثر شراسة من الوحوش التي تأكل.

أدى البسطاء دورهم في هدر سمعة ضحاياهم وهدر فرصة التغيير مجانًا، متوهمين أنهم صاروا شركاء في الحكم، ولم يمر هذا الوهم دون ألم شخصي. نشرت الصحف عن إصابة ابن السيدة بحيري بطلق ناري من أمين شرطة. حاول الشاب أن يتوسط لدى الأمين لاسترداد رخصة قيادة سائق متوهمًا أن شهرة والدته تؤهله لتلك الوساطة، لكنه اكتشف أن شهرتها عديمة النفع. أدت نمرتها وخلدت للنسيان. ثم طويت صفحة السيدة بمصابها، قبل أن يغادر أوباما البيت الأبيض سليمًا، لكنها كانت قد ساهمت دون أن تدري في ترسيخ مبدأ التصفيات المعنوية لأصحاب الرأي المختلف، وفي خلق متعة الجمهور عند متابعة البذاءة، مثلما اعتاد جمهور الإمبراطورية الرومانية على الاستمتاع بمشاهدة الأسود تنهش البشر في الحلبة.

https://bit.ly/2k8Lvy7