ذكريات عن مناظرة الطرنش

مشاريعي المهدورة وسط زحام الانشغالات. كتاب عن «الهدر» الذي نتعرض له وبدأته سلسلة من المقالات بهذه النية في المصري اليوم التي توقفت عن الكتابة لها بعد ذلك. المقال السابق وما سيأتي، هو من ذلك المشروع المغدور.

……………

ربما لا يتذكر الكثيرون الآن السيدة إيمان محمد عبدالعزيز، وشهرتها التليفزيونية أم محمد، أو أم شيماء كما ينادونها في أبو زعبل. لقد جرت في الطرنش فضلات كثيرة، لكن صيحة أم محمد الفلسفية المشهورة في وجه باسم يوسف «انت مش موجود في الوجود» ستبقى خالدة تجسد حقيقة الإنسان المهدور.

 الإنسان غير الموجود في الوجود، هو الإنسان المهدور الذي تحدث عنه عالم النفس اللبناني مصطفى حجازي،  وللسخرية، فالخصمان معًا مهدوران: السيدة لديها فائض أسماء وتعاني من نقص في الحاجات الضرورية للإنسان، وباسم يوسف لديه اسم واحد ، مستريح ماديًا، لكن لديه فائضًا من التهم أجبره على الخروج من مصر. 

   تتهم أم محمد الإعلامي بتلقي خمسة مليارات من أمريكا نظير الخيانة، لكن المليارات لم تمكنه من البقاء في مصر، فذهب إلى أمريكا، التي تصبح أرض العملاء والجواسيس عندما نريد، وأرض الصديق والحليف الاستراتيجي عندما نشاء!

  وبصرف النظر عن مضمون برنامج باسم  الذي أزعج أم شيماء، فالرجل حقق أعلى درجات النجاح الإعلامي، ثم تعطلت موهبته أو أهدرت. في بلاغتها الفلسفية بالفيديو الشهير، قالت أم شيماء: «إحنا بنشرب المية من الطرنش، وانت الطرنش اللي مش عارفين نهضمه» ولمن لا يعرف الطرنش فهو خزان الصرف في المناطق التي تفتقر إلى شبكة المجاري، حيث يعاني الفقراء للحصول على ما يأكلونه، وهم يعرفون أنه محسوب عليهم؛ فكلما أكلوا تغوطوا وكلما تغوطوا امتلأ الخزان. 

  هضمت أم شيماء فضلات الطرنش لكنها لم تهضم المختلف في الرأي. لا تشعر بأنها مهانة، وتهين خصمها أو بالأحرى تهدر إنسانيته إذ تصفه بـ «الطرنش». وقد أخذت المرأة المهدورة فرصتها لسحق الرجل المهدور، وبينما لم يأخذ باسم فرصته للدفاع عن نفسه، وجدت أم شيماء فرصتها لكي تستعرض مظاهر هدرها، عبر فيديو تال تستجدي فيه العلاج، وقد صورت الكاميرا بيتها الذي يقدم ببؤسه تعريفًا لمعنى هدر الإنسانية؛ فليس في مكان كهذا يعيش الإنسان.

أم شيماء..الهادر والمهدور

  المرأة المهدورة قدمت مساهمتها في إهدار حق باسم يوسف  في العمل والتعبير عن موهبته، وفي إهدار أفق تمتع به الإعلام فترة محدودة، لكنها على أي حال لم تحمل ضده حجرًا أو سيفًا أو زجاجة  مولوتوف من التي حملها البلطجية في ليلة معركة الجمل بغية تصفية المعتصمين في ميدان التحرير. ويحتاج الأمر الكثير من الجهد لتحمل مرارة تحالف الفئة المهدرة فقرًا مع من أهدرهم، ضد شباب سعوا إلى تحريرهم.

  في فيديو الاستجداء تحدثت أم شيماء عن فقرها وأقسمت أنها لم تحصل على شيء  نظير وقوفها إلى جانب الدولة التي تقبل بها كما هي، حتى لو شربت فيها من الطرنش وعاشت مريضة في بيت بلا سقف، فهي أفضل حالاً من سيدة سورية كانت تتمتع ببيت جميل وفجأة اختفى البيت والدولة.

  منطق المقارنة سليم؛ فوطن يوفر برميلاً للتغوط بأمان أفضل ألف مرة من وطن تسقط فيه البراميل الحارقة من السماء، لكن غير الصحيح هو افتراض أن ممارسة حق النقد يمكن أن يهدم الوطن كما تتوهم أم شيماء، وليس من الطبيعي أن يسقط الحكام البراميل المتفجرة فوق رؤوس محكوميهم، لكي يكون عدم القصف إنجازًا بحد ذاته.

ــــــــــ

نشر المقال في المصري اليوم تحت العنوان ذاته في ١٠ أبريل ٢٠١٨

https://bit.ly/2lTHZYL