عن «الوطن» وخيانات وإخفاقات اللغة

الثورة التي كانت

  في البدء كان الكلمة. منذ أن قال الله كن فكانت الموجودات، وعلى الدرب سارت حياة البشر.

  كل شيء يبدأ في اللغة: النجاح، الإخفاق، الشر، الخير، الخيانة، والأمانة!

وعلى الرغم من مرارة الإخفاق ومرارة الخيانة التي واجتهها الموجة الأولى من الربيع العربي، لم يحظ هذا الإخفاق بالدراسة الواجبة، ولم نتأمل دور الللغة في ذلك، وحجم الإخفاق اللغوي الذي اكتنف الربيع في موجته الأولى التي بدأتها تونس والثانية التي بدأتها الجزائر والسودان.

   ومن أخطر الكلمات التي تستخدمها الأطراف هي كلمة الوطن. هذه الكلمة تنطوي على اللؤم والخبث بقدر ما تنطوي على السذاجة والغفلة، الأمر الذي يجعلها بحاجة إلى تفكيك. (تفكيك الكلمة أعني وليس تفكيك الدولة). 

   تبدو كلمة الوطن درعًا يتذاكى النظام ويتمسك بها، وتتغابى المعارضة وتستعملها. يرى النظام ـ أي نظام ـ أن الأوضاع يجب أن تستمر على النحو الذي يراه هو، وأن أي جهد لتغيير النهج يؤدي إلى تقويض «الوطن» وتفكيكه، والمعارضة عندما تستخدم كلمة الوطن، فإنها تعني بها وطن المقهورين؛ وطن الفقراء المهمشين، لا وطن القاهرين والأثرياء، وترى أن جهودها خيرة إلى حد أن الجميع يجب أن يؤمن بها كما يؤمن بالله.

  وربما كانت هذه الرومانسية أهم أسباب الانصراف من الميدان في ٢٥ يناير، قبل الاتفاق على خطوات واضحة لإدارة المستقبل.

    عندما يتعلق الأمر برفع الكلمة الغامضة «الوطن» تكسب السلطة، حتى لو انحنت للريح بعض الوقت، تكسب، ويكسب الأثرياء، ففي أيدي هذا الفصيل القوة التي تبطش بأجساد المختلفين والثروة التي توظف في البطش بعقولهم وغسلها. 

لكن معطيات الواقع تقول إن هذه الجهود عديمة النفع، وأن حيازة السلطة لا تعني القدرة على الاحتفاظ بها. يمكن أن نرى هذا الاستنتاج في الدول التي رفضت الربيع ببطش مثل سورية أو التي جردته من فعاليته بالحيلة.

   ولهذا تتجدد وستتجدد موجات الغضب ويتواصل هدر الإمكانيات  في دورات ستنتهي حتمًا بالصحيح، لكن الوقت والثمن الذي تدفعه البلاد في ظل التدرع بكلمة «الوطن» أعلى من الثمن الذي يمكن أن تدفعه لو تواضعت الأطراف ورضيت بتفكيك كلمة «الوطن» إلى العناصر الواقعية لها.

 من المؤسف أن أحدًا لا يستطيع أن يملي على المسلح بالقوة ما ينبغي عليه فعله، ولهذا تمضي الأنظمة إلى مصائرها المرسومة سلفًا كما في التراجيديات الإغريقية.

   لكن المعارضة يمكن أن تعقل، ومدعوة لأن تفهم أنها ستظل في خطر إذا أبقت على رومانسية «الوطن» دون مناقشة. الطبقة الوسطى حاملة قيم التغيير والعقل هي التي يجب أن تقود الفهم الواعي لكلمة الوطن بوصفه مجموعة من البشر، تتوزع إلى فئات وطبقات اجتماعية مختلفة، وهذه المجموعة مضطرة للعيش المشترك على هذه الرقعة من الأرض أو تلك.  وهؤلاء البشر لديهم  مصالح مختلفة، بل متضاربة، ووضع هذه المصالح في الاعتبار هو الذي يحقق تلقائيًا المصلحة الموحدة في وطن قوي مرهوب من جماعات العنف ومن الدول الأخرى.

 أصبح واضحًا أن السلطة تكون أضعف و«الوطن» يكون في خطر عندما تستبعد القوى الأخرى وتعمل وحدها. والمعارضة ليست في موقع أفضل  لمجرد أنها تتحدث عن العدل، إن كان العدل الذي في ذهنها هو اعتبار الوطن وطنها ووطن من لا صوت لهم «الفقراء»  خصوصًا أن التجربة أثبتت أن  الكثير من الفقر يتطابق مع الجهل، ومن موقعة الجمل إلى اليوم كان الأكثر فقرًا  أداة الأقوياء جدًا والأثرياء جدًا في هزيمة حلم التغيير.

  باختصار لن تتحقق المصلحة الواحدة «مصلحة الوطن الآمن» إلا إذا تحلى كل طرف بالتواضع عند النظر إلى قوته الذاتية، وبالإحترام عند النظر إلى قدرات الآخرين. وهذا ممكن تحقيقه إذا تركت كل الأطراف كلمة «الوطن» لتستريح قليلاً كما يستريح العجين قبل تشكيله.