من منا لم تروعه/ها قصة الطفلة «جنة» ذات السنوات الخمس التي نشرت الصحف والمواقع قصة تعذيبها من جدتها لأمها واغتصابها من خالها؟
من منا لم يراوده/ ها إحساس بالارتياح بعد الصدمة الأولى، عندما انتهى من قراءة القصة ومطالعة الصور، سعيدًا لأنه ليس «جنة» وليس أمًا أو أبًا لجنة أو أيًا من أطراف قصتها؟
هذا الترويع بقصص العنف المفرط هو الطريق الأقصر لحيونة الإنسان وقسمة المجتمع إلى نوعين من البشر. نوع يستجيب لنوازع العنف الأصيلة في الطبيعة البشرية فيصبح على هذه الشاكلة المتوحشة إذا تشاجر مع شخص آخر أو حتى اختلف معه بشأن قضية عامة، ونوع يستجيب بالانزواء بينما تختلط في نفسه مشاعر الرعب وهبَّات قليلة من السعادة لكونه لم يزل بعيدًا عن دائرة العنف، ليس ضحية أو جلادًا!
والنوعان يتعايشان مع العنف ولا يمكنهما الاقتراب منه أو تحليله بغية تغييره. يظل العنف المفرط مصمتًا يمارس الترويع على نفوس كل من يتفاعلون معه، ويكتسب الشرعية من خلال تعميمه.
معظم المتابعين توقفوا عند استبشاع الجريمة والاستغراب من قسوة جدة تحرق جسد حفيدتها في مناطق حساسة وشذوذ خال يغتصب ابنة أخته فضلاً عن كونها طفلة.
ورغم القيود التي نعرفها جميعًا، إلا أن الكسل الذاتي وانحدار مستوى المحررين يساهم في انهيار مهنة الصحافة، وهذا الانهيار هو المسئول عن غياب قصة مكتملة ومتماسكة في موضوعات اجتماعية متاحة للتناول، وليس هناك من محظورات رقابية تمنع العمل عليها بجدية.
سنجد القاسم المشترك في التغطيات الشراهة في نشر الصور بما يخالف آداب المهنة، والتباهي في السبق حيث تتكرر عبارة «أول صور…» الجميع أوائل وسباقون. وهذا دليل آخر على الإفلاس. كنا في السابق نباهي بالسبق في اليوم التالي، عندما تتأكد الوسيلة الإعلامية أنها كانت الوحيدة والسبَّاقة فعلاً تنوعه عن سبقها في العدد التالي. الآن تحمل العناوين الجديدة مضامين السبق دون أن تتحقق مما نشره الغير بتبجح لا يثير إلا الشفقة.
السبق البائس في صور جنة يتوزع على نوعين من الصور:
* صور حروق الفتاة، وهي تخالف الأخلاقيات المهنية، صادمة، وتذكرنا مع قصة الخال الشاذ بفيلم «سالو..أو ١٢٠ يومًا في سدوم» الذي صنعه الإيطالي بازوليني مستعيرًا رواية الماركيز دو ساد، بعد أن استبدل أرستقراطيي الرواية الأربعة برجال أعمال فاشيين وجنود، فيما يعد أكبر هجائية فنية للفاشية، وربما كان الفيلم سبب اغتيال بازوليني.
* النوع الثاني من الصور هو صور الأسرة وبعضها مغمى العيون وبعضها سافر بما يتنافى مع أخلاق النشر، وهناك صورة الأم المنقبة التي لا يمكن أن نتبين شيئًا من كتلتها الزرقاء، حيث يمكن أن تكون الصورة لامرأة أخرى أو لفزاعة طيور.
وإذا انتقلنا من المصور إلى المكتوب نجد الكثير من النقص المخل والتضارب. وكان بوسع طرف واحد من هذه الأطراف الإعلامية النهمة أن ينتج قصة صحفية متقنة تميزه، بدلاً من ادعاءات السبق الزائفة.
في القصة، غير المتهمين الرئيسيين (الجدة من جهة الأم وابنها) هناك أب وأم للطفلة المغدورة، منفصلين، لكن على قيد الحياة. وهما فقيران ولا تشير القصص إلى أي حد، حتى نعرف إن كان هذا الفقر يمنع الأب من كفالة ابنته. وفي القصة روايات مختلفة حول الوضع الجسدي والاجتماعي للأبوين. بعض القصص قالت إن الوالدين مكفوفان، وبعضها قال إن الأب أصاب الأم بالعمى في مشاجراتهما قبل الطلاق، دون الإشارة إلى عماه. وفي القصة هناك أعمام للفتاة وعمات وأخوال وجدان رجلان.
وبخصوص ما حدث للفتاة فنحن بصدد تقرير طب شرعي وادعاءات أفراد العائلتين المليئة بالرغبة في الانتقام.
تقرير الطب الشرعي، حسب المتاح عنه، يصف حروقًا على سائر الجسد وظاهر الأعضاء التناسلية للفتاة وتهتكًا داخليًا، يُحتمل أن يكون نتيجة لاعتداء جنسي. هذه الـ «احتمالية» كانت تستدعي سؤالاً صحفيًا: لماذا يُحتمل وليس مؤكدًا؟ هل يمكن أن يكون هذا التهتك نتيجة تعفن بسبب بكتريا الحروق؟ لأن الغرغرينا حدثت في أعضاء أخرى وتم بتر الساق قبل وفاة الطفلة.
على أية حال، فقد تحولت هذه «الاحتمالية» إلى اغتصاب مؤكد في القصص الصحفية المتعجلة، من خلال إفادات الأب، وهو من إفاداته يبدو أنه كان على علم مسبق ولمدة طويلة بما تقاسيه ابنته، ثم جاء ليمسرح نهايتها، حيث جلب لها آخر وجبة أكلتها (لحم ودجاج معًا) بعد أن استنجدت به من جوعها وهي على فراش الموت بالمستشفى!
في القصة عنف ضد الأم أفضى إلى عماها، مر دون محاسبة، وفيها طلاق عنيف طبعًا وامتناع عن دفع النفقة للمطلقة المريضة وإلقاء طفلتيه على أسرة الزوجة، وهناك طيف واسع من العائلتين والجيران كان بوسعهم منع الجريمة، لكنهم كانوا راضين عن أنفسهم لأنهم ليسوا جنة وليسوا أمها أو أبيها.
هناك كذلك إجراءات التقاضي بكل ما فيها وقوانين النفقة التي تجحف بالمرأة، لأنها لم تزل تعتمد الدخل المثبت في أوراق الوظيفة الحكومية دون ما يسرقه المطلق المرتشي أو ما يكسبه من عمل خارج الوظيفة، والتراخي عن إلزامه بالتنفيذ بعد الحكم، وهو ما حدث في قصتنا هذه، ويحدث كل يوم.
في القصة طابور طويل من السعداء بكونهم ليسوا جنة، ويجب أن يكون هذا الطابور في عداد المتهمين قانونيًا وأخلاقيًا.