نحن هنا بأمل أن نعيش

للفنان علاء عوض

لم تكن في نيته مغادرة البيت لا الأربعاء ولا أي يوم آخر طالما بقي يوسف. كان كل همه أن يقنعه بالعودة الدائمة إلى مصر. استيقظا متأخرين، وأعدا معًا الإفطار، واكتشف لدى يوسف شغفًا بالطبخ لم يعرفه عنه من قبل. بعد أن تناولا الإفطار دخل إلى المطبخ، أخذ يُفتِّش الثلاجة والخزائن، يسأل عن دقيق ونشا ولوز ولبنة. تبعه ليرشده، وسأله:

ـ ماذا تريد من كل هذا؟

 ـ ألا تريد أن تتذوق كيزهكوخن من يدي؟

 تذكَّر سامي الفخر الذي كانت أليس تتحدث به عندما تقدم تلك الحلوى الألمانية وتشرح للضيوف عراقتها العائدة إلى الحقبة الرومانية. وفي مرة عقَّب أحد الباشاوات على شرحها:

ـ هذا تارت، مثل أي تارت فواكه يا أليس هانم!

وترد ساخرة:

ـ نعم، تارت ياباشا! وطبعًا التارت أصله فرعوني. هذا Kasekuchen!

   بعد أن وضع يوسف القالب في الفرن جلسا في الشرفة وعادا إلى تبادل الحكايات بينما يراقبان الشارع. سمع سامي إشعار رسالة على تليفونه، كانت  نداءًا لحماية الميدان من هجوم وشيك للبلطجية. جمدت عيناه للحظات، ثم نهض دون أن يفكر، فتح باب الشقة وانطلق هابطًا السلم. أخذ يعدو ويوسف في إثره يحاول إعادته، حتى صارا داخل الميدان.

  إنزرق سامي داخل الميدان ويوسف من ورائه.  كانت الأغاني مستمرة تقطعها الخُطب كما كانت في الأيام السابقة. يتناقل المحتشدون أخبار الثورة في المدن الأخرى، بينما يجتهد كل منهم في إخفاء خوفه بعيدًا عن أعين الآخرين.

    قبل أن يتمكن يوسف من إقناعه  بالعودة إلى البيت بدأ الهجوم بالعصي والسيوف من فوق ظهور الجمال والخيل من جهة ميدان عبدالمنعم رياض، وفي لمح البصر أطبق الميدان على المهاجمين. اختفى الجيش المزركش المُعادي واختفت معه فراشات الطاووس في ذات اللحظة؛ نكس المعتصمون الأعلام، وانشغلوا بترقب الخطر. 

   تتابعت موجات من المهاجمين الراجلين، يضغطون على مداخل الميدان الأحد عشر، يحاولون اقتحامه بالحجارة والهراوات بينما احتلت مجموعات منهم أسطح العمارات، يلقون من فوقها بزجاجات المولوتوف. وانقسم المحاصرون  تلقائيًا إلى مجموعات ثلاث، واحدة تستخدم قضبان الحديد في خلع بلاط الأرصفة وتكسيرها، وأخرى تجمع هذا الكسر وتحمله على البطاطين والألحفة وتجره بالقرب من خط المواجهة، وتضم الثالثة المدافعين الذين يتوزعون على مداخل الميدان. 

  اندفع يوسف إلى خط المواجهة وخلفه سامي مستثارًا يضحك دون أن يحسن التصويب، فانتقل إلى مجموعات جر الحجارة. يصهل كحصان يصعد مرتفعًا، بينما يساهم في جر البطانية المثقلة بالأحجار. عندما يصلون إلى خلف خط الدفاع، يترك لزملائه إفراغ الحمولة، ويجري بحثًا عن أخيه، وعندما يراه يضحك مجددًا، ويهرول في إثر زملائه العائدين بالبطانية الفارغة إلى منجم الحجارة.

   أخذ التراشق المتبادل بين المحاصرين والمهاجمين يتقاطع فوق الدبابات التي تقف ساكنة في المداخل، كأنها ملقاة هناك منذ بداية الكون. كلما تقدم الليل، صار الميدان أكثر عزلة، وكأنه لا ينتمي لأي مكان في الكرة الأرضية. 

  بدأ سامي  يفقد إحساسه بالإثارة، بينما يستعيد ما قاله يوسف في التليفون عندما كان يحاول يحاول إثناءه عن الذهاب إلى الميدان «أخذنا ما يكفينا من الألم يا سامي» أخذ النبر الجنائزي لكلمات أخيه يتردد في أذنه وبدأت كركبة الجليد في قلبه، ولم يكن أمامه سوى الاستمرار في العمل حتى فقد الإحساس بذراعيه وساقيه. وقف في مكانه وسط حركة المهرولين في كل اتجاه، نكَّس رأسه يتأمل الأرضية الكابية المليئة بالحجارة المتناثرة، أعجبته ضخامة الظلال المتقاطعة على الأرض «لو كانت أحجامنا بقدر ظلالنا ما استطاعوا أن يهاجمونا» أخذ يُقلِّب وجهه، يحاول أن يتسلى بربط كل ظل بأصله. انتبه إلى شعاعات  من أنوار الليزر تأتي من بعيد، وتحط على الرؤوس، تتنقل مثل ذباب أخضر، من رأس لرأس بسرعة لا يمكن للذباب أن يطير بها. أحس بإحداها على وجهه، مد يده ليمسك بها فانتقلت إلى رأس رجل بجواره لم يلبث أن سقط متكومًا فوق ظله. 

ـ رصاص!

  صرخ أحدهم بقوة تتجاوز قدرات البشر، صيحة ليس فيها إلا الإحساس بالقهر جعلت الأنظار تتجه إلى المكامن المحتملة التي ينطلق منها الرصاص دون أن  يهتدوا إلى مكان القنَّاصة. تحلق بعضهم حول الرجل المتمدد، وأخذوا يتسمعون نبضه، تلاقت عيونهم حزينة قلقة، وعادوا للوقوف يمسحون الأفق بحثًا عن مصادر الخطر، بينما هرول البعض وعادوا ببطانية، فردوها على الأرض. انحنى سامي يساعد في حمل الرجل إلى البطانية، وأدرك أن الموت الذي تعرف عليه باردًا يابسًا في جسد أبيه، بوسعه أن يكون ساخنًا وطريًا. ارتفعت البطانية وأخذت تتأرجح في أيدي المهرولين الذين حملوها من أطرافها، وغابوا وسط الزحام.

   تكرر سقوط الشباب الذين يحملهم زملاؤهم في البطاطين إلى المستشفى الميداني. سرت الهمهمات حول وجود قنَّاص على سطح العمارة التي تحتل ناصية شارع شامبليون. بعد قليل انطلقت التكبيرات، وقيل إن الثوار تمكنوا من اقتحام العمارة التي كانت مغلقة، وألقوا بالقنَّاص من فوقها، لكن الموت استمر؛ فأشارت التخمينات إلى فيلا في شارع الأنتكخانة، ثم  كوبري أكتوبر، خلف تمثال عبدالمنعم رياض، ثم الفندق الشاهق الشاحب خلف التمثال والكوبري.

    صار الموت أكثر من أن تحمله البطاطين أو يستوعبه المستشفى الميداني ونقاط الإسعاف المتعددة التي أقيمت على عجل وسط الميدان، ودخلت سيارات إسعاف تنطلق بحمولاتها إلى مستشفى قصر العيني، في مسار ليس آمنًا تمامًا. أخذ سامي يجري كالمجنون بحثًا عن يوسف الذي كان بدوره يبحث عنه. تواجها وتعانقا «هل يعرف أحد في العالم حقيقة ما يجري هنا؟» فكَّر سامي، متمنيًا أن يخرج حيًا مع شقيقه من الميدان أو يموتا معًا. أخذا يتحركان متلازمين. بين وقت وآخر ينظر إلى ساعته، فيجد أن ما حسبه ساعة، لا يتجاوز بضع دقائق، يقارن بين ساعة يده وساعة التليفون فلا يلحظ أي خلل في إحداهما. 

   كانت معنويات الجميع تتداعى. أخذت النساء في تحميس المدافعين بقرع حديد الإفريز الذي يؤطر الأرصفة حول الميدان، بينما تبث الإذاعة الداخلية أخبارًا عن مدد قادم من حي شبرا، ثم من جهة الهرم، ثم المهندسين. عند منتصف الليل، كان الإعياء واضحًا على وجه يوسف، وكان سامي متعبًا وخائفًا، لكن شعوره بالندم على استدراج أخيه إلى الميدان كان أقوى من تعبه ومن خوفه. 

  عندما استبد بهما الإعياء، شابكا يديهما وسارا نحو الكعكة الحجرية وسط الميدان ليستريحا. وقفت سيدة منقبة في وجهيهما، تحاول إثناءهما عن التقهقر بالصياح:

ـ يا بختك يا مؤمن، الشهادة في انتظارك.

رد يوسف بتلقائية:

ـ نحن هنا بأمل أن نعيش.