هل يؤمن المتمجدون؟

فرناندو بوتيرو

   أصعب ما تواجهه منظومة استبداد في هذه الحقبة من التاريخ هو الذاكرة. ليس ذاكرة البشر المهدورين؛ فهذه صارت ضعيفة مرتجة بسبب سرعة تلاحق الصفعات. الصعوبة تأتي من الذاكرة الإلكترونية التي تتيح التاريخ حيًا في متناول الجميع. لم يعد أحد بحاجة إلى الذهاب لدار الكتب والخضوع للإجراءات المجهدة من أجل الاطلاع على أعداد قديمة من صحيفة، ناهيك عن أن العودة للمواد الإذاعية والتليفزيونية كانت شبه مستحيلة، إذا لم تتحها السلطات. كل ما كتب في زمن الإنترنت موجود بضغطة بحث، كذلك فإن مقاطع الفيديو على موقع «يوتيوب» ذاكرة صاخبة تعاند جهود أية سلطة في هدر ذاكرة الجمهور.

    ذاكرة اليوتيوب جاهزة لمقارنة ما يقوله أحدهم بعروق نافرة اليوم مع عكسه الذي  قاله من قبل بنفس الحماس. مستخدمو شبكات التواصل يستخرجون القديم ويضعونه في مواجهة الجديد من فيديوهات هذا «الخبير» أو ذاك المذيع فيقشرون عنه ملابسه التي تتخلى عنه طائعة كقشرة موز!

  بعضهم تحتفظ له ذاكرة «يوتيوب» العنيدة بمدائح لمبارك العائلة ثم شتائم، شتائم لثوار يناير ثم مدائح، مدائح للمجلس العسكري ثم مدائح للإخوان فشتائم للإخوان، ثم شتائم لثورة يناير مجددًا ومدائح للمجلس العسكري ثم للسيسي.

فرناندو بوتيرو

  هل يمكن أن يؤمن إنسان بكل هذه المتناقضات؟! 

  بالطبع يستحيل. لكن من أسماهم الكواكبي «المتمجدون» لا يُعرِّضون أنفسهم لهذا السؤال من الأساس. هم طمحوا إلى مكانة تشبه المجد، يضعون أنفسهم في خدمة الغالب ويحصلون على نعمته. ومن الطبيعي أن يتحملوا بعض أعباء المهنة كالقلق، وهذا إحساس مصاحب لكثير من المهن حتى غير المربحة كمهنة لاعب السيرك. خطأ واحد قد يكلف البهلوان البائس حياته، بينما لا يفقد الرجل البوق إلا القليل من كرامته إذا أخطأ، وذلك لا يقلل من بريق الانتساب للسلطة؛ فغالبًا ما تأتي الإهانات عبر اتصال تليفوني، ويقنع المتمجد نفسه بأن ما سمعه بحق السيدة والدته سيظل سرًا بينه وبين من وبخه، وعليه أن يحافظ على مظهر المجد، ويسعد بامتيازاته.

   أجمل ما في السلطة أنها لا تجبر أحدًا على الانحطاط. هي لديها مزايا يسيل لها اللعاب فحسب، وهي تجلس في دارها تختبر المتسابقين وتختار بكل راحة من بين الذين صبروا على التسبيح زمنًا دون انتظار جزاء، كما لو كانوا مؤمنين. 

 هي تعرف أنهم غير صادقين. هذا لا يهم، بل ستكون كارثة لو تم الفرز على أساس الإيمان. ستتقوض السلطة؛ فأغلبية من يديرون مفاصل أية سلطة هم هكذا، لهذا تكتفي بأن يصرخ المتمجد بما تريده وأن يبدو كما لو كان مقتنعًا.

 المشكلة أن التفنن في إثبات الولاء مثل البهارات، إذا زادت عن حدها أفسدت الطبخة. حدث ذلك كثيرًا أيام مبارك، كان بعض محبيه يجرون فيسبقون ظلالهم، وتأتي مدائحهم بعكسها.

   في تلك الأيام المجيدة كان الغضب على المبالغين ينتهي بعدة شتائم تليفونية وتحذير من الحماسة الزائدة. أحدهم لم يطاوعه قلبه على الانضباط، فتلقى أوامر بعدم ذكر الرئيس ولو في أحلامه، مع ذلك لم يؤذه أحد، واستمرت رحلته الإيمانية، ومثل لاعب سيرك متمرس ظل نجمًا خلال كل موجات التقلب، وما كان مستهجنًا من مدائحه في البداية صار بفضل الله مقبولاً. 

 هذا الرجل البوق وأمثاله لا تنقصهم الفكاهة عندما يكونون في حلقتهم الضيقة، مثلهم مثل مشعوذي الإمبراطورية الرومانية، الذين كانوا يلتقون فلا يتمكنون من منع أنفسهم من الضحك لأنهم يعرفون أن ما يتفوهون به محض هراء.