عن مشاعرها: حقائب سعيدة وأخرى تعيسة

مشهد النهاية في آنا كارنينا

ولن تجد رفيقًا يشاطرك مشاعرك كما تفعل الحقيبة.

حقيبة السائح؛ أي المسافر باختياره من أجل الاستمتاع يلفها فرحٌ ساذج؛ سواء كانت صندوقًا من الأبنوس المطعم بالجواهر أو كانت مخلاة من النسيج الصناعي على الظهر. لكن الفرحة في الذهاب مجرد فضول وتطلع، ونادرًا ما يعود المسافر وحقيبته على ذات النغمة المبتهجة.

والحقيقة غير السارة، أننا مهما سافرنا أو رأينا حقائب سفر؛ فأكثر ما نتذكره هو الحقائب الحزينة؛ ذلك لأن الفرح ساذج وسطحي وهش، سرعان ما يتخلى عنا لأبسط الأسباب، بينما الحزن لئيم وعميق. وللأسف فهو الأكثر على هذه الأرض. 

 الحقيبة الحزينة الأولى التي رأيتها في طفولتي كانت حقيبة ميت. بالأحرى مخلاة مدماة لضابط عادت مع جثته من حرب اليمن عام ١٩٦٤. بعد ذلك عرفت أن الحروب ليست شرطًا لرؤية حقائب حزينة تزحف على سير الأمتعة بالمطار برفقة صندوق القصدير الذي يحوي جثمان صاحبها أو حقيبة ترجع وحيدة بعد دفن صاحبها في الغُربة. 

غلاف أنا أروى

في رواية أريج جمال «أنا أروى يا مريم» نرى أروى طفلة وحيدة عائدة إلى مطار القاهرة بعد موت أبويها في حادث حيث كانوا يقيمون في بلد عربي. لم تدرك الطفلة تمامًا طبيعة ما حدث إلا عندما وجدت في استقبالها بالمطار أقارب لم تعرفهم، وامتدت إليها يد أحدهم وأخذت عنها الحقيبة. 

 انتشار المصريين غربًا إلى ليبيا وشرقًا إلى العراق ودول الخليج، تجربة أنتجت أدبًا، لكن تغريبة المصريين إلى أوروبا عبر البحر التي بدأت في تسعينيات القرن العشرين ولم تزل، على درجة من القسوة لا يستطيع الأدب تحمل ثقل حزنها. وقد قمت بتحقيق ظاهرة الموت في عرض البحر في كتاب استقصائي «العار من الضفتين».

 يولد حلم السفر في قلب المراهق القروي بالذات، وأحيانًا في قلوب ذويه؛ فيبدأ التفكير في رحلة شجاعة يعززها الجهل بالبحر الذي يتصورونه ترعة. 

حتى لو كانت الرحلة حلمًا شخصيًا مترعًا بآمال الثروة، لا تعيش الحقيبة الصغيرة الرخيصة سعادتها سوى أيام؛ حيث تتعرض للانكسار في مهاجع التجميع السرية. 

  تنحيف جسد المسافر لكي يصبح خفيفًا على الزورق المتهالك مسألة تحدث تلقائيًا، بسبب شح الطعام خلال أيام وليالي الانتظار. أما تعليمات ما قبل  الإبحار فتخص حقيبة الظهر الصغيرة. لابد أن تتقلص محتوياتها إلى الحد الأدنى اللازم للحياة: بعض الماء والقليل من الطعام. بعض تلك الحقائب يختفي مع صاحبه فيترك للأسرة أملاً معذبًا، وبعضها يعود منفردًا فيصبح بمثابة شهادة وفاة، أما المسافر الذي تُكتب له النجاة؛ فيحتفظ برفيقة الخوف إلى أن تتحسن أحواله؛ فيراها مثل ندبة في الجسد تُذكِّره بلحظات مؤلمة. وعندما يصبح بمقدوره أن يتخلص منها، يكون قد شُفي من رحلة الخوف والحزن، وقد يعود ذلك المسافر إلى بلاده بعد سنوات طويلة، بصحبة أكثر من حقيبة سعيدة جديدة لا تعرف شيئًا عن أيامه الصعبة.

كنا، نحن المصريين، روادًا في الاستسلام. فررنا دون قتال عندما انسدت أبواب الأمل، ثم تبعنا السوريون واليمنيون والسودانيون، في موجات فرار فوضوي مؤلم من وجه الحرب. 

 السفر من أجل العلاج تسميه منظمة السياحة العالمية «سياحة علاجية». ربما ينطبق المصطلح على سفر قلة من الموسرين ، تسافر دون مخاطر جدية، إلى منتجعات تدَّعي قدرتها على التصدي لزحف الزمن. هؤلاء ستصاحبهم حقائب سعيدة؛ فيها الأزياء المتفاخرة ولباس السباحة المبتهج، وأدوات الزينة التي سيشترون المزيد منها أثناء الرحلة.

  حقيبة المسافر بمرض خطير لا تكون سعيدة على هذا النحو. غرفها الأكثر راحة ستكون لعلب الأدوية التي يجب أن يستمر في تعاطيها إلى أن يأمر الطبيب البعيد بخلاف ذلك، وهناك التقارير وصور الفحص السابقة. وستنزوي الملابس الحزينة والقليلة في المتبقي من الفراغ دونما كرامة. 

 تلك الحقيبة، مرشحة لحزن أكبر في رحلة العودة، وفي مصادفات سعيدة تتبدل المشاعر إلى فرح مطلق أو اطمئنان حذِر. تختفي الأدوية أو تتقلص مساحتها لصالح هدايا للآخرين ومشتريات لتدليل الذات.

 حقيبة المسن قد تنطوي على بعض مما تحتويه حقيبة المريض، من الأدوية وأجهزة قياس، التي تتكدس باستسلام وفتور، بعد أن صارت جزءًا من الوجود؛ فعندما يتوقف الجسد عن الدوران حول لحم آخر خارجه، يبدأ في الانشداد إلى تلك العلب الكرتونية والبرطمانات الزجاجية التي تشبه شُهبًا صغيرة معلقة في مجاله.

 حقيبة عروس مسافرة لقضاء شهر العسل تختلف عن حقيبة الأم المُرضعة. فضول وقلق الرحلة مع جسد آخر تجهله المرأة تمامًا أو تعرفه تحت ظرف مغاير تختلف عن سكينة واكتمال السفر مع طفلها. 

سفر المرأة مع جزء من جسدها هي يحبها دون شروط، لا يحتاج إلي ملابس مثيرة، ولا حمَّالات صدر مغوية، بل أخرى عملية تُسهِّل إرضاع الصغير، ومن نسيج يمكنه استيعاب بلل الحليب.

مساحة الطفل لها الأولوية في الحقيبة. مضادات المغض، الببرونة، علبة الحليب الجاف، منظفات ومرطبات تلك الكتلة الطرية المتوهجة بالحياة.  ملابس الصغير وحفَّاظاته قبل ملابسها؛ فأناقة هذا المُجسم الصغير لها تغني عن أناقتها.

 أفترض أن قصص الحب والسفر السعيد وحقائبه لا تعني إلا أصحابها؛ فالأدب إنما يُخلِّد القصصَ الحزينة فحسب.

وعندما أفكر بحقائب الحب الحزينة أتذكر حقيبتي آنا كارنينا وإيما بوفاري. آنا عرفت الحقائب السعيدة في سفرها عندما كانت خلية البال تروح وتجيء بين بطرسبرج مدينتها وموسكو حيث يُقيم شقيقها، ثم عرفت بعد ذلك حقيبة الانكسار والحزن عندما انتقلت من بيت زوج لم تحتمل إملاله، إلى بيت عشيق لم يحتمل ندمها وشكوكها وشوقها لطفلها.وعندما أصبحت حياتها غير محتملة، لم تجد بدًا من الافتراق عن حقيبة حزنها بإلقاء نفسها تحت عجلات القطار.

 إيما بوفاري، لم تسافر بعيدًا؛ فقد عرفت عشيقين محليين، لكنها اشترت حقيبة ومعطفًا ثقيلاً من أجل الهرب مع أحدهما. رودلف بولانجيه الذي حلمت بحياة عريضة معه، ووضع معها تفاصيل خطة الهروب كتب إليها رسالة قبل السفر بساعات يرفض فيها المغامرة، يمكن تلخيص مضمونها في عبارة واحدة «أحبك لكنك لن تكوني سعيدة معي، تستحقين أفضل مني». 

ما يدعو للدهشة أن هذه النذالة التي تدَّعي النبل لم تزل طريقة الذكور المفضلة للتنصل من تبعات الحب، لكن النساء وعت الدرس، وأصبحت عبارة «انت تستاهلي أحسن مني» موضوعًا للتنكيت في تجمعاتهن الإلكترونية المغلقة، لكن سخريتهن لا تضمن اختفاء الحب العاثر والحقائب الحزينة من الحياة!

الأكثر بؤسًا من حقيبة حزينة ممتلئة، حقيبة حائرة تقاوم فتح قلبها للأمتعة. وقد رأينا هذا اللون من الحقائب المترددة في روايتي تولستوي وفلوبير.

 في بداية «آنا كارنينا» لا نشاهد آنا أو حقيبتها، بل شقيقها ستيفان أوبلونسكي، الذي يستيقظ من النوم مفكرًا في غضب زوجته داريا التي اكتشفت خيانته لها مع مربية أطفالهما. يتوجه إلى غرفتها ليسترضيها، فيجدها واقفة أمام خزانة ملابسها، تلقي بمحتوياتها على السرير دون أن تجرؤ على وضعها في الحقيبة؛ حيث كانت الحيرة تمزقها، بين بقائها في بيت واحد مع زوج خائن وبين الرحيل إلى بيت أسرتها؛ فأطفالها الخمسة صاروا ضائعين في بيت حزين تضرب الفوضى في جنباته، وسيكونون أكثر ضياعًا إذا ما أخذتهم بعيدًا عن بيت أبيهم.

 وفي «مدام بوفاري»  كان الشاب ليون كاتب المحامي يبادل إيما حبًا صامتًا. وهربًا من الحب اليائس وغير الأخلاقي لامرأة متزوجة انتوى الرحيل لاستكمال دراسته في باريس، لكنه ظل مدة طويلة يراكم صناديق وحقائب ويحزم حزمًا تكفي لرحلة حول العالم. كانت هذه طريقته لإبطاء الرحيل.

 يرحل ليون، يلتقطها من بعده رودلف الفظ المتأنق؛ رجل لا يختلف عن زوجها شارل بوفاري، إلا بجسارته في التعبير عن شهواته. وبعد أن يخذلها، يعود إليها ليون وقد تخلص من خجله ورومانسيته؛ صار رودلف  جديد، كل ما يريده منها لقاءات سرية مختلسة، أفضت بها إلى الانتحار؛ بينما تبقت حقيبتها مع معطف سفرها الثقيل جديدين بلا نفع سوى إثقال المؤجل كاهل الزوج المسكين بثمنهما المؤجل لتاجرٍ مرابٍ!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر المقال في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ ٥ أغسطس.