هي وبناتها وحودة

يوسف أبو رية

1

إنه أمين الأعمى يعتلي مئذنة جامع السوق…

تهبط تسابيحه من سماء الحي، تجول بين النوافذ المغلقة وفتحات الدور، تهتز لها القلوب في وجل.

” سبحان من تسمى قبل أن يتسمى “

“سبحان من كان عرشه على الماء “

“سبحان من علم آدم الأسماء “

يتقلب ذكي لبعض الوقت في فرشته، وحين يسمع الأذان ينهض ليرفع شريط المصباح قليلا حتى تبدو أشباح الغرفة، كتل متناثرة هنا وهناك، حصير متهرئ، ولحاف قديم له رائحة عطنة، وقلة ساح الماء حول قعرها، وحنفية من الزنك، يتلقف ماءها إناء صغير، تسقط القطرات فيه طوال الليل، متجاوبة مع ضربات قلب الغافي.

رش وجهه الأسمر بقليل من الماء ثم مال على ذيل الجلباب ليجففه، وذهب إلى ركن الغرفة المكدس بالظلام، فدفع كتف حودة، ولم يستجب، فركله في مؤخرته، لم ينفرد بدنه الملموم، فاضطر ككل صباح أن يملأ كفه بالماء، وينثره على وجه حودة، فقام صارخاً: آب آب.

رفع ذكي يده إلى أذنه ليعلمه أن أمين أذن لصلاة الفجر، ثم أشار إليه مرة أخرى بكلتا يديه ليخبره أن اليوم سوق، ولابد وأن يلحقا وقتهما قبل الزحام ليصلا إلى محل المعلم قبل طلوع الشمس.

أجابه حودة بأنه يفهم كل هذا، وحاول الانثناء ببدنه واضعا رأسه على يده المطوية، ولم يدع ذكي له الفرصة، فشده من الذراع المفرودة على جنبه، وجره إلى الحنفية غصباً، وأمال رأسه تحتها ليسقط الماء على شعره الخشن بينما حودة يتملص منه ويصرخ بصوت مكتوم: آب.. آب.

بعدها اضطر إلى مسح وجهه بكميه، وانحنى على أدواته فرفعها تحت إبطه، وجعل البعض مرصوصاً على الحزام الجلدي الذي يلتف حول خصره، سكاكين، وسواطير، ومبارد طويلة، وحبال سميكة، وآنية كبيرة من الصاج.

نفخ ذكي في الفتحات السفلية للمصباح، فاضطربت الشعلة، واختنقت، وأعاد النفخ، فانطلق منها دخان أسود، حوم داخل الزجاجة المعتمة، وانطفأت.

الآن هم خارج الغرفة…

هي مكان معزول، ومستقل، أمامها مساحة ضيقة يطل عليها جدار غرفة أخرى لها باب يفتح من الجهة العكسية، يسكنها طالب المعهد الديني، هو ابن إحدى القرى النائية، يدرس علوم القرآن والحديث، وعلوم البلاغة والنحو العصية تجاوز سن التلمذة منذ عهد بعيد ولكن والده يصر على إكمال الدراسة حتى يحصل على الشهادة الثانوية ليلتحق بجامعة الأزهر في القاهرة. هكذا كان يحلم، وهكذا وهبه لله وقرآنه الكريم حين كان يملس بكفه على أستار الكعبة في رحلة الحج الوحيدة. مال برأسه متشبثا بالأستار السوداء المباركة إلى جوار الحجر الأسود، وترك دموعه تسيل وهو ينهنه بشدة: إذا رزقتني بالولد سأهبه لكتابك المجيد.

وحين تعثر في دراسته سعى إلى تزويجه، فخطب له إحدى بنات قريته، هي الآن تقيم في بيت العائلة، وينزل هو المدينة وحيدا ليتردد على المعهد، ويجد الوقت الكافي لتحصيل علومه.

كان يقلقل قفل الغرفة حين خرجا عليه في نفس اللحظة.

–  صباح الخير يا مولانا.

– سلام ورحمة الله وبركاته… رزقكم الله بالرزق الحلال.

وسار أمامهما يظلع في مشيته، يسند بكفه على الساق السليمة، ويجر المشلولة على الأرض، لم تنم أبداً، ولم تزد عن ساق طفل صغير.

في المواجهة باب أم على صاحبة الغرف والدار ذات الدورين. تؤجر الغرف السفلية،  وتسكن هي وبناتها الأربع في الدور العلوي.

أشار حودة إلى أخيه. إنه يريد التبول في المرحاض العمومي لدار أم علي، ورد زكي بأنهما سيمران على الجامع ككل صباح، ولكن حودة أشار بألم إنه لا يستطيع صبرا، فالماء سيتدفق منه غصبا، فقال له زكي: رح.

ودفعه من ظهره، وقف ينتظره على الباب الذي يجمع الغرف بدار أم على، يراقب الشارع النائم، وحودة دخل الردهة التي يصعد منها السلم إلى الدور العلوي، دفع باب المرحاض فوجد فكري النقاش يعتصر جسده فوق حجرين، ويستند بكلتا يديه على الجدران، فصاح معتذرا: آب.. آب .

عاد بظهره إلى الوراء لينظر إلى الباب المفتوح، وهمست نفسه الخرساء، يا رب كيف يتحقق ما رأيت في المنام ؟

هكذا رآها، قبل أن يوقظه زكي بقليل في نفس الثوب الأحمر الفضفاض الذي يحيط ياقته زغب خفيف، يبدأ من وراء القفا ثقيلا وغزيرا وينتهي إلى السرة خفيفا نحيلا ليترك مساحة باهظة لحركة الثديين الوفيرين.

إنها أمامه الآن بهيأة الحلم.

تميل على الدلو والفرشاة، تسحبهما من تحت السرير الأسود العالي ذي الناموسية الشفافة المنسدلة عليه من أركانه الأربعة.

انتبهت فكيهه إلى العين الواسعة المحدقة فيه بقوة، رأت دموعها شهوة تسيل على الخدين، فارتعشت أعطافها.

“ماذا يريد مني هذا الأبله” إنه لا يكف عن التحديق في سائر بدني… وحين أكون في جلسة بين الجارات لا ينظر لغيري.. إن لعينيه سكاكين تمزع الجسد، تهتك أسراره، إنني لا أطيق نظرتهما.. نظرات فاضحة، لا حياء فيها، ولا خشي”.

خرجت بأدوات زوجها لتضعها أمام الباب، وعادت إلى الغرفة تعد له إفطاره، فلحق بها حودة.

– عاوز إيه ؟

وقلبت كفيها البيضاء في الفضاء…

فأشار إلى موضع القلب، وأسبل جفنية، ثم رفع أصابعه مضمومة على شفتيه. 

– شف حد غيري.

وسمعت نداء فكري في المرحاض، فجزعت، وانتفض سائر بدنها.

– أيوه…

– جهزت اللقمة ؟

– أيوة..

ودفعت حودة إلى الخارج، فكان يتقهقر بظهره دون أن يرفع عينيه عن الفلقتين المنسابتين بين الزغب الوردي الذي ينام على هضبتي الصدر.

عند الباب تشبثت أقدامه بالأرض، وعزم على الهجوم فرغبات اليد النحيلة أقوى من إرادته، إنها تريد الإمساك بشيء من نتوءات الجسد الفارع الموزعة بحكمة، وبهندسة إلهية تثير شهوة الرضيع.

ـــــــــــــــ

*الفصل الأول من رواية «ليلة عرس» ليوسف أبو رية