كونوا أمناء واعترفوا: فلسطين بحاجة إلى سردية جديدة

القوة واقفة

منح ترامب القدس التي لا يملكها لمن لا يستحقها. وكل دقيقة تضيع في وصف فساد وصلف وغرور نتنياهو وترامب والحديث عن حاجتيهما لإعادة الانتخاب هي دقيقة ضائعة  فيما لا يفيد مجددًا، هي دقيقة خائنة. وكذلك كل حديث عن وجود سلطة فلسطينية ومحيط عربي وإسلامي رافض للقرار هو خيانة أخرى ومغالطة تقلل من حجم الخطر، بل تنشر ضبابًا حول الواقع الذي كان خطيرًا في كل الأحوال حتى من دون أن يعلن ترامب عن خطته.

الواقع أن  الأرض التي كان من الممكن أن تكون أرضًا لدولة فلسطينية قد تآكلت تمامًا منذ اتفاقيات أوسلو حتى اليوم، ولم يعد هناك مكان لتنفيذ أي شكل من أشكال الدولة عليه. وقد تم ذلك في وجود رئيس وعلم ونشيد في رام الله وفي وجود لحية وبندقية وصاروخ في غزة، وفي وجود جامعة عربية  ومنظمة إسلامية تشجب في أوقات الضرورة. 

الوقائع على الأرض الفلسطينية مريرة،  ويتم التعتيم عليها. توحش الكيان العنصري أخذ شكل قوانين تقرها المحاكم الإسرائيلية،  وتكفي الإشارة إلى العقاب الجماعي. لا يوجد في العالم تشريع مستند إلى قواعد دولة حقيقية يشرِّع هدم ومصادرة بيت الأسرة التي يشترك أحد أبنائها في عملية مقاومة!

 بالقانون الإسرائيلي الديمقراطي جدًا وفي المحكمة المدنية جدًا يصدر هذا الحكم وتتحرك آلات الهدم المسلحة لتنفيذ حكم العدالة!

هذا نموذج واحد من نماذج العنصرية التشريعية المخزية دون أن تكون شهيرة في العالم. 

في وجود السلطة وحماس، وفي وجود ما يُسمى بالمحيط العربي الإسلامي، الذي لا وجود حقيقيًا له، تآكلت الأرض الفلسطينية، لكن وجود هذه المؤسسات الفلسطينية والعربية في الصورة يوحي بوجود صراع، تميل كفته لصالح العدد الكبير من الدول في مواجهة إسرائيل الصغيرة الضعيفة!

العقل والشجاعة يتطلبان أن يكون بيننا من ينتبه إلى أن الأطراف المشار إليها قد آذت الشعب الفلسطيني بضعفها، كما آذت إسرائيل نفسها، وساهمت في صنع الواقع المعقد الذي لم يعد صالحًا لحل الدولتين. 

المهزوم الذي يمتلك بقية من قوة يمنع المنتصر من الجنون، وقد تسبب الضعف المطلق في جنون إسرائيلي مطلق. في غياب تام لأي ردع يمارسه المهزوم وجدت إسرائيل أن بوسعها أن تنسى صيغة الأرض مقابل السلام لتفرض السلام دون هذه المبادلة. وقد فعلت هذا في ظل سردية مختلفة تمامًا، حيث تنتشر الرؤية والقصة الإسرائيلية عبر العالم عن إسرائيل الدولة الصغيرة المحاطة بطوق عربي واسع ويتعرض مواطنوها (المدنيون المسالمون) إلى جهاد ديني تقوم به حماس التي تفجر الباصات وتطعن المتنزهين بالسكين.

تكسب إسرائيل بعنف سلاحها على الأرض، ثم تعود لتكسب الضمائر بمزاعم ضعفها وقوتنا غير الحقيقيين، والمهزومون يغذون سرديتها الدولية بالتفاخر في كل مناسبة بقوتهم المزعومة عبر تلويح بضعة مقنعين بالبنادق في الشوارع.

الحق جالس

سبق أن تساءلت في مقال بجريدة فلسطينية في حياة أبي عمار: «لماذا يلوح عرفات برشاش ثقيل على يده المهتزة بالشلل الرعاش؟ للضعف جمالياته، فاعلنوا ضعفكم». وأشهد أن مقالي أزعج رئيس التحرير آنذاك، لكنه نُشر كما هو، وكان مصدر ألم رئيس التحرير أنني مسست رمزية (الختيار) وهي خط فلسطيني أحمر.

إذا لم تكن قويًا بما يكفي لفرض ما تريد؛ فالحل الصحيح الوحيد هو أن تروي قصك الحقيقية: أن تُعلن ضعفك فهو ليس أمرًا مشينًا أبدًا؛ أن تدافع عن وجودك في الضمير كما فعل سود جنوب أفريقيا. 

وسردية الشعب الفلسطيني الضعيف كانت موجودة دائمًا عبر الثقافة الفلسطينية؛ موجودة في إبداع غسان كنفاني وحنا مينة ومحمود درويش ووليد خازندار وزكريا محمد وغسان زقطان إلى مازن معروف وأمثاله من الشباب، وفي التنظير كان هناك إدوارد سعيد، ثم دخلت السينما الفلسطينية سلاحًا جديدًاأهم من السلطة وحماس معًا. 

لكن سردية الشعب الضعيف لم تكن مطلوبة، ويتم التعتيم عليها، يُغتال الأدباء والمفكرون أو يُستبعدون. 

واليوم هذه السردية هي التي يجب أن تقوم وأن تمثل الفلسطينيين.

وعلى أصحاب المناصب أن يكونوا رجالاً ويخرجوا بعيدًا، يستمتعون بما لديهم من بقايا المساعدات التي كانت وبالاً. ويعود الشعب الفلسطيني شعبًا أعزل تحت احتلال عنصري، يعلن كفاحًا سلميًا، ويعيد رواية القصة الأصلية: لابد من التذكير بالحقائق التي لم يمض عليها سوى عقود: لم تكن هناك دولة اسمها إسرائيل منذ سبعين عامًا، ولكن أوروبا الموجوعة الضمير بسبب ما ارتكبته من مذابح بحق اليهود رأت أن تقيم لهم دولة في أرض عربية تحتلها بدلاً من إقامة دولة لليهود في ألمانيا فوق رماد آبائهم.

عاش وصف وعد بلفور «من لا يملك أعطى لمن يستحق» كجملة بلاغية، وقد آن الأوان لتحويله إلى جهد قضائي ضد بريطانيا، التي سلمت أرضًا تحتلها وتنازلت عن حقوق شعب مسئول منها.

بدلاً من البحث عما لنا قانونيًا وترسيخ قصتنا إنسانيًا، أفنينا أعمارًا في إنكار المحرقة والتهليل لمن ينكرها من الأوروبيين (روجيه جارودي مثالاً الذي ادعينا أنه غيَّر اسمه إلى رجاء). 

انكار المحرقة أو التقليل من حجمها أمر غير إنساني ويشوش على القصة الفلسطينية. الهولوكوست وقع بالأعداد التي يعلنها اليهود وأكثر، ونحن لم نرتكبه لكي نُعاقب بإقامة دولة لليهود في فلسطين، كما أن القول بوجود دولة دينية خاصة لليهود ليس هو المنطق السليم وليس التعويض الآمن للضحايا، وقد صاروا آمنين في كل الدول التي يقطنونها بفضل علمانية النظام الغربي.

كذلك نفي وجود اليهود وأنبياؤهم تاريخيًا لا يفيد، لكن المفيد أن نعلن للدنيا أن وجود أجداد لا يرتب حق تمكين الأحفاد من إقامة دولة بالقوة، لأن هذا المبدأ معناه ضرورة إقامة دولة دينية للمسلمين في الأندلس وصقلية وكل ما دخلته دولة الإسلام في شمال البحر المتوسط، ومنح البلقان لتركيا.

المبدأ الذي قامت عليه إسرائيل مبدأ مغشوش؛ فاليهودية لم تخرج وحدها من فلسطين، المسيحية كذلك ولدت هناك؛ فهل نقيم وطنًا قوميًا لمسيحيي العالم في هذه البقعة الصغيرة المثقلة بالقداسة والدم؟!

القصة برمتها بحاجة إلى مراجعة أمينة؛ فكونوا أمناء، وليفعل كل ما عليه أن يفعله، لكي يبدأ الفلسطينيون رحلة كفاح حقيقية بوصفهم شعبًا تحت الاحتلال يستحق حماية الأمم المتحدة وتكاتف العالم معه لإلغاء العزل العنصري، وأن تصبح فلسطين أيًا كان اسمها دولة لكل سكانها على كامل أرض فلسطين التاريخية، بعد أن ضاعت إمكانية حل الدولتين.