وفي ذلك السرير الغريب يكون نداء الغريزة أكثر إلحاحًا

إذا كان الهروب من الموت مستحيلًا؛ فالسفر، بنظرة أخرى، محاولة لاستئناس ذلك العدو. الرحلة عرض لطيف نقوم فيه بأدوار الموتى، ثم نخرج  منه سالمين سعداء، مثلما يغادر الممثل المسرح عائدًا إلى بيته بعد أن رأيناه يسقط مقتولاً. 

رغم تطور وسائل الاتصال التي أصبحت تسمح للمسافر ببث مقاطع فيديو حية من الأماكن التي يزورها، إلا أنه ـ عمليًّا ـ غير موجود في حياة الآخرين. لا يستطيع إنقاذ من تركهم وراءه إذا ما تعرضوا لخطر، وهم يعرفون هذه الحقيقة؛ فيرفعون عنه التكليف كما يرفعونه عن الطفل والمجنون والميت، حتى أنهم يحجبون عنه الأخبار السيئة.

 هذا الموت الرمزي لا يعني أن خطر الموت الحقيقي غير قائم خلال الرحلة. كل  المسافرين تنتابهم قبل الشروع في الرحلة ـ ولو للحظات ـ مخاوف الموت في حادث طائرة أو قطار. قد يأتي هذا الخوف ثقيلاً منفردًا، وقد يأتي بين خلطة من المشاعر، فيها رثاء الذات الذي يشعر به من يعرفون ساعة موتهم، وفيه كذلك فرحة الانعتاق والراحة الأبدية. وقد يأتي خطر الموت ساخرًا يثير في المسافر ابتسامة شماتة في  كل أولئك الذين يثقلون حياته ويجعلونها أصعب باعتمادهم المفرط عليه. 

لكن، بمجرد أن ننخرط في التمثيل (إعداد الحقيبة، تدبير وسيلة الانتقال إلى المطار، التفكير في الوزن الزائد) يخف رهاب الموت.  وما إن نصل للمكان الآخر،  ونضع حقيبتنا في غرفة ونتمدد في سرير جديد حتى نعرف أننا قد نجونا من الأخطر، ونستشعر حلاوة النصر. لا يمنعنا سوى الاحتشام من إطلاق صيحة الظفر: «ها أنا حي»!

 الصيحة التي يكتمها اللسان تهتف بها كل الحواس: تتفتح الرغبة في أن نرى، أن نشم، أن نتذوق، وأن نلمس، وفي ذلك السرير الغريب يكون نداء الغريزة أكثر إلحاحًا. وإذا لم يكن في حياة المسافر عشق خارق، يقفز إلى جوارنا في السرير حلم المغامرة مع شريك مختلف، لكن اللياقة التي تمنعنا من الاعتراف بكثير من المخفي في غرف اللاوعي المظلمة يخرجها السفر بخفته، بسهولة تحمل البعض على الارتداد إلى أزمنة الطبيعة الأولى يأكل دون تفكير في الوجبة القادمة، يجرؤ على تجربة المختلف الذي لم يكن ليتذوقه في موطنه. البعض يوسع من عودته إلى الطبيعة فيضطجع مع عابر في عربة نوم بقطار.

الإنجليز احتاطوا بأغنية You belong to Me تحاول إبطال مفعول خفة السفر؛ تطلب من الحبيب أن يتذكر دائمًا أنه لحبيبه، عندما يتأمل الأهرام على النيل، عندما يتمشى في سوق قديم بالجزائر، عندما يُحلِّق فوق المحيط في طائرة فضية، حتى عندما يحلم في الغرفة الغريبة، عليه أن يتذكر أن له حبيبًا! 

الغناء العربي لم يتأخر عن تذكير المسافر، لكنه يتحدث عن سفر قسري؛ عن «متغرب» وليس عن «سائح» ويمزج الحبيب مع الوطن، وكأن الحب وحده ليس سببًا كافيًا للعودة، ولابد من التذكير بالأرض لذلك ستتضمن رسالة الحب زهرة وحفنة تراب.

على أية حال، يخفف السفر من ارتباطات الإنسان بماضيه، بتقاليده، ويكون المرء جاهزًا لتمثيل العودة إلى البدائية الأولى عندما لم يكن للإنسان ماض ولا رغبة في الثروة أو المجد، أي قبل أن يقوم بحركته الانفصالية عن أمه الطبيعة وعن شركائه في الحياة من الطير والحيوان .

ـــــــــــــــ

مقطع من «كتاب السفر» الدار المصرية اللبناية