ذات وباء أفظع من هذا!

 لسنوات طويلة، سيبقى موت مجاهد، لا حياته، سببًا لتذكّره؛ لأنّه آخر من رحل عندما كان الموت مفهومًا وله معنى؛ فبعد عام واحد من وفاته بدأت حالات الإسهال والقيء تضرب العشّ. من جرّبوا الخروج بمرضاهم إلى منيا القمح وبلبيس عادوا من دونهم مذعورين. توقّف المصنع منعًا للاختلاط، وأُغلقت نوافذ السراي وبدأوا في تنفيذ التعليمات التي استمرّ الراديو في إذاعتها مع أخبار تفشّي وباء الكوليرا.

لم يسأل أحد عن النتيجة التي انتهت عليها الحرب، ولم يعد أحد ينتظر تقدّم الألمان، بل وقف تقدّم الوباء، الذي تسلّل في قطار مع أمتعة الجنود الصاعدين من أفريقيا، وانتشر من المعسكرات إلى المدن والقرى المصريّة. أرسل سلامة باستغاثته إلى مأمور المركز بعد أن تزايدت حالات الإصابة بالعشّ. وأقام بجوار التليفون انتظارًا للردّ، لكنّ الصرخة التي حملتها الأسلاك لم يرجع صداها إلّا بعد يومين: «ستأتي شاحنة كلّ يوم، والمطلوب الإبلاغ عن أيّة حالة لحملها إلى الحجر الصحّي الذي أقامته الحكومة في ساحة محلج القطن ببلبيس».

استمرّ الراديو في إذاعة تعليمات الوقاية، وأهمّها التخلّي عن العادات العاطفيّة الضارّة؛ لأنّ التستّر على مريض عزيز سيقتل عزيزًا آخر لم يصبه المرض بعد. وفي الوقت نفسه كان الرعب ينتشر من الإهمال في معازل الحجر الصحّي التي سمّوها «العِفنة» يُلقى فيها المرضى بلا أيّة رعاية، انتظارًا للموت، وأحيانًا ما يُحملون إلى حفرة الدفن الضخمة أحياء؛ حيث يمكن سماع أنينهم من بين أكوام الجير الحيّ التي تُهال فوقهم.

صار لضجيج الشاحنة الضخمة الرهبة نفسها التي تُثيرها آليّات جيش معاد. وكان توقّف الممرّضين المكمّمين بالمحفّة أمام إحدى الدور كفيلاً بإصابة السليم بالإسهال. لم يخلق الوباء التعاطف والتضامن الذي اعتادته العشّ أثناء الفيضان وعند اشتعال الحرائق؛ فليس هناك ما يمكن أن يقوم به الأصحّاء تجاه المرضى، بل على العكس، كان الخوف يدفع الجار للإبلاغ عن مريض مختف في الدار المجاورة مثيرًا غضب جيرانه. وللمرّة الأولى يشعر سلامة بالمسافة التي تفصله عن سكّان العشّ، وما تجلبه السلطة من كراهية. كان مطلوبًا منه تنفيذ النظام وتمكين البعثة الطبِّيّة من ممارسة مسؤوليّتها في أمان، حسب القرار الذي وصله مع جندي مراسلة ووقّع باستلامه. وأخذوا يعتبرون أنّ كلّ انتزاع لمريض من بين يدي أسرته هو بمثابة تنفيذ حكم الإعدام.

لم يطل صمود السراي في وجه الوباء، على الرّغم من احتياطات النظافة التي قادتها مباركة بصرامة، مدعومة بتعليمات الراديو. بدأت تفيدة التقيّؤ عند المغرب. وعندما همس أحد الخفراء لسلامة بإصابة زوجته، ترك التلفون وعاد إلى السراي. أشار إليها لتدخل إلى غرفتها بعيدًا عن الآخرين. لم يقترب منها. كان واضحًا من تعبيرات وجهه أنّها بالنسبة له في تلك اللحظة مجرّد مصدر للخطر. ومضت بنظرة في عينيها لخّصت فيها كلّ عتب وأسف عمر لم تشعر فيه بأنّ وجودها ضروري لدى رجلها؛ فهي تعرف أنّه لم يتزوّج عليها بأخرى إلّا لأنّه شديد الانشغال، وأنّها لم تبق في هذا البيت إلّا بفضل عناده وفخره بنجاحه الذي لا يريد أن يخدشه بفشل في الزواج.

ـ خلاص. ربّنا صلّح لك الغلطة.

قالت بمرارة، بينما كانت تجتهد لتكبح موجة جديدة من الاستفراغ؛ حيث صار بمقدوره أن يتزوّج ثانية من دون أن يُعدّ ذلك إخفاقًا يُحسب عليه.

جرجرت رجليها إلى الغرفة المظلمة، لم تره عندما أراح رأس أخيه عليّ في حجره، وأخذ يتلقّى استفراغه في يديه، بينما وقفت مباركة تتلقّى منه في دلو، وتجفّف يديه وفم المريض بمنشفة، وفي أقلّ من ساعة مات عليّ بين يدي أخيه وأُصيبت سميحة عليّ، ثم منصور ويوسف. وتوالت الإصابات طوال الليل؛ بحيث لم يعد واضحًا مَن التالي. في الصباح أعطت الشاحنة ظهرها للسراي، ولم تتحرّك إلّا بعد أن امتلأ صندوقها بكومة من اللحم والبراز والاستفراغ، لم يُعرف عدد أفرادها على وجه الدقّة إلّا بعد انتهاء الوباء وعودة من بقي على قيد الحياة من الشباب الذين هربوا إلى الحقول وعاشوا على الخضراوات طوال أسابيع، خوفًا من العدوى المنتشرة في هواء القرية المحبوس.

لم يقو سلامة ولا مسعدة على الوقوف لوداع الراحلين، بينما وقفت مباركة بعينين خاليتين من التعبير، كأنّها تنظر إلى جيران ينقلون أثاث بيتهم القديم. وعندما أغلق الممرّضان المكمّمان صندوق العربة العسكريّة وقفزا بجوار السائق الملثّم، سقطت من عينها دمعة، ولوّحت لزوج من العيون يلمع في قمّة الكومة، استطاعت أن تلمح استغاثة ابنها مصطفى عندما تحرّكت العربة، وسرعان ما غابت النظرة الحزينة خلف الغبار المختلط بسخام المحرّك الخرب.

أغلقت بوّابة السور، وفي طريق عودتها عثرت على عطيّة ابنة يوسف تحت شجرة برتقال، مغطّاة بالغائط، وجيش من النمل.

بعد التأكّد من انتهاء الوباء فتحت مدرسة الحربيّة أبوابها، ومنحت طلّابها أسبوع عطلة للاطمئنان على أسرهم. عاد سالم مقدّدًا مثل سمكة رنجة أنضجتها الشمس في بذلة كاكيّة بضفيرتين ذهبيّتين على كتفيه. لم يجد في السراي سوى أمّه، ومن كلّ إخوته لم يبق سوى محمود وزينب، والطفلة عطيّة، ومسعدة امرأة عمّه عليّ وابنها كامل، أمّا سلامة، الذي صار عمدة لقرية فقدت نصف سكّانها.

ــــــــــــــــــ

*مقطع من رواية «بيت الديب».