عن رجل مريض وامرأة تسكن الأحلام

 

محمود سعيد

سريعًا  تنتهي رحلة الحياة مهما طالت. أسرع تنتهي رحلة المسافر، لكن المسافر محظوظ، بخلاف الميت. 

لقد عاد!

 على باب المطار، أو ربما خلف باب البيت، يجد العائد أحدًا بانتظاره فيتأكد أنه لم يكن مخطئًا في قرار العودة.

 مازال هناك من يريده، ويستقبله بالأسئلة عن أحواله أولاً، عن رحلته كيف كانت، مهما كان هول ما حدث في أرض العودة. المهم سلامة الميت الذي بُعث.

 بعد أن يأتي دور العائد في طرح الأسئلة، تنحسر الابتسامة من فوق وجه المستقبِل، يقول: نحن بخير، لكن…!

 وراء هذه الـ «لكن» قد يأتي خبر موت أو مرض شخص عزيز. يشعر المستقبِل بالخجل وهو يحكي الحكاية، كما لو أن تلك الحياة التي انتهت أو الصحة التي تبددت كانت عُهدة تركها المسافر بين يدي المقيم ولم يُحسن رعايتها!

لقد نقص عدد الأحياء واحدًا أو نقص عدد الأصحاء واحدًا في أسبوع من الغياب. ورغم أن المسافر على تواصل لم ينقطع، إلا أن التقاليد التي تعتبر المسافر مفقودًا تأبى أن تزيده ضياعًا بأخبار من رحل أو من مرض!

كأن الحزن مهنة المقيمين. يحبسون الأخبار المحزنة عن المسافر حتى إذا عاد يتسلم حصته مما فاته من الحزن، وما ينتظره من المهام: رخصة السيارة بحاجة إلى تجديد، خدمة الإنترنت مقطوعة، والمياه تتسرب من مصدر مجهول في الحمّام.

 انتهى عرض التخفف من الحياة. أصبح الملك مجردًا من حاشيته: ندل المقاهي والمطاعم، سقاة الحانات، الأدلاء السياحيون، وخدم الفندق، وكل أولئك الذين كانوا ينحنون أمامه بينما يقدمون له مطلوبه. اتصال هاتفي لموظف الاستقبال كان يحل مشكلة الإنترنت، تسرُب المياه، صوت ثلاجة الغرفة، وإن تعذر الإصلاح ينقلون النزيل إلى غرفة أفضل مع اعتذار لطيف. 

هبط المسافر من النعيم الفندقي، وسريعًا تتبدد متعة الرحلة، لكن المكسب الباقي اكتشافه أن حياة الآخرين كانت ممكنة من دونه. هذا الاكتشاف المبهر الذي يوفره السفر يفوت الميتين للأسف.

لا أحد يعود من الموت القاسي، ليُفاجأ بأن حياة الآخرين صارت أفضل في غياب تضحياته. 

لكنني أعرف رجلًا استطاع أن يتصور ذلك المستقبل السعيد لأحبائه من قبل أن يرحل، فمكث يستعجل رحلته الوحيدة والأخيرة. 

 كان فلاحًا أجيرًا ضعيف البنية، مصدورًا، فكان التخوف من عدوى السل إضافة إلى ضعف إنتاجيته سببًا في عدم إقبال الناس على استئجاره، وهم في الوقت ذاته لم يعتادوا التصدق على رجل. 

أخذ رزقه يضيق كلما تقدم في المرض إلى حد اعتداء الجوع على نضارة زوجة جميلة جدًّا أنجبت ولدين في مثل حُسنها. كان الحاسدون يُقسمون أنه تزوجها بخدعة أو سحر أسود. 

في مرضه الأخير الذي طال، كان يرى إقبال الرجال على زيارته، وكان يرى في النظرات حسدهم له واشتهائهم لها. ذات ليلة همس في أذنها بمسكنةٍ، عندما مالت عليه وأخذته بين يديها لتصحح نومته:

ـ اصبري يا سامية، بُكرا أموت، وربنا يفرجها عليكم من وسع.

ـ ما تقولش كده، حسك بيننا بالدنيا.

ـ أنا قافل باب الرزق عليكِم.

 لم تعرف إلامَ كان يُلمِّح، لكن أبواب الرزق تفتحت برعونة بعد رحيله. 

 بدأت الأرملة الشابة تتاجر وتربح. أخذت تسافر هنا وهناك للتبضع. ولأن الآخرين لا يسافرون، وإن سافروا يذهبون مثقلين بهموم مريض يُسنِّدونه أو أوراق ملكية يتأبطونها؛ فلم تكن لديهم أية وساوس بشأن ما يمكن أن تدفعها إليه خفة السفر. 

 كانت تذهب وتعود بعربة محملة، تجلس بجوار السائق، ذراعها مستريحة على عتبة الشُبَّاك، والصندوق في الخلف مترع بالجديد والمدهش الذي جلبته؛ أجهزة التليفزيون، الغسالات، أطقم الصيني، أواني المطبخ، الخلاطات، المراوح الكهربائية، المناشف، وقمصان النوم. 

وكانت الابتسامة أقصى ما تمنحه لزبون فوق بيعة رابحة. لم ينل منها  رجل أو امرأة أكثر من ذلك ولا أقل؛ فلم تُشهِّر بها امرأة، ولم يقطع الأمل فيها رجل. 

وعلى هذه الحال عاشت؛ ملكة رشيدة توزع ودها بالعدل على رعية من نساء تسكن كوابيسهن ورجال تسكن أحلامهم.

ــــــــــــــــــــ

  • فصل (مع ذلك بخير) غرفة المسافرين.