أراقب صامتًا الحملة الحالية ضد التحرش. والصمت لا يكون دائمًا من أجل النأي بالنفس؛ بل هو أفضل مقدمات الكلام.
لدينا في القضية شق عام، ضد التحرش بوصفه جريمة من حيث المبدأ، وشق تفصيلي يتعلق بقضيتين صارتا شهيرتين. الأولى بطلها شاب، والثانية ضد ناشر.
وأحب أن أبدأ هنا من الباب الواسع: القضية العامة حول جريمة التحرش ومسبباتها، وقد لاحظت أن معظم المتفاعلين مع القضية يضعونها في حجر الدعاة الإسلاميين.
تضمنت الحملة إعادة نشر لمقاطع فيديو من دروس دعاة من الشعراوي إلى دعاة سعوديين لا أعرفهم إلى دعاة جدد، يتناولهم المغردون والمدونون باعتبارهم منظري ظاهرة التحرش والمتسببين فيها.
وفاء للحق، ولرغبتنا الصادقة في البحث عن حل، يجب أن نرى الوحش من كافة جوانبه، لا أن نُغمض عيوننا ونلمسه ثم نصف ما وقع تحت يد كل منا.
ولو شئنا رؤية الوحش من شتى جوانبه فلابد ألا نغمض أعيننا عن الفكين والمخالب. لا يستطيع أحد أن ينكر أن الخطاب الديني هو الضرع الذي روى المتحرشين بمنطق خاطئ، لكن من قال إن كل من لديه إيمان بفكرة يستطيع أن ينفذها دون حساب للعواقب؟ كم عدد المصريين الذين يؤمنون بأن أموال رجال الأعمال نمت بطريقة فاسدة وتستحق المصادرة، ومن منهم جرؤ على التحرش بمال حرام؟!
الأمر يتعلق بحالة القانون، من حيث التشريع وإرادة التنفيذ. ولكي نتحدث عن إرادة الدولة فيجب أن نبدأ من وسائل نشر الخطاب المتطرف.
كيف وصلتنا خطابات الظلام، من إباحة التحرش إلى خطاب التكفير وكراهية الأقباط ومعها الحض على طاعة الحاكم ولو كان ظالمًا؟ أكان الشعراوي يخطب في ميدان التحرير ويتجمع حوله الناس أم سُخرت له أدوات الدولة؟
لقد أتى بعض المتفاعلين على ذكر رياح الوهابية التي هبَّت على مصر منذ منتصف السبعينيات دون أن ينتبهوا إلى أنها أوقفت في بلادها مؤخرًا بقرار. عندما ولدت إرادة لإخراس دعاة التليفزيون خرسوا، أو انتقلوا بشكل هزلي إلى الإفتاء بنقيض ما أفتوا به سابقًا.
الطريف أن بعض المغردين الذين حملوا على الوهابية ، وحمَّلوها وزر ما نحن فيه، حملوا كذلك على مناضلي اليسار القديم ووصفوا دفاعهم من الناشر بالتفكير المعوج وأهالوا التراب على النضال الذي وصفوه بالمسموم . ولم ينتبه الجدد إلى أنهم يشتركون مع بعض من يسبونهم في إلقاء التهمة على الوهابية، وفي الصيغة الازدرائية لـ «قيم الصحراء» !
وللإنصاف لم يكن سب الوهابية قاسمًا مشتركًا لدى اليساريين، بل لدى مجموعة صغيرة من اليساريين العائشين في كنف الأمن، ومن يريدون التعبير عن شوفينية وطنية ملتوية. وقد أيتح لي أن أُسمي ذلك النضال في حينه بـ «النضال الآمن» .
في مقابل هؤلاء تكفي خطبة صنع الله إبراهيم ضد الفساد وضد ارتهان القرار للخارج، لحظة إعلان فوزه بجائزة الرواية العربية عام ٢٠٠٣ لكي يتعقل الشباب قبل أن ينسفوا تاريخ آبائهم.
الارتهان للخارج كان جزءًا من أسباب انتشار الوهابية في مصر، والوهابية ليست تعبيرًا أزليًا عن ثقافة أدنى، بل بدأت حركة تنويرية من داخل الدين ضد الخرافات. وأرى هنا وجوب التذكير بأن شريطنا الأخضر الذي أكله الفساد لا يكفي لإخراجنا من دائرة الصحراء. لنتحدث عن القانون وعن إرادة الدولة في تطبيقه قبل الثقافة وقبل الدين وقبل الأخلاق.
كل صاحب فكرة يسعى إلى نشرها. النازيون في أوروبا موجودون، لكن هناك مسطرة قانونية من يتجاوزها يدخل السجن، والدولة لا تروج لهم ولا تفتح لهم أبواب الإعلام الذي تملكه، ولا تتقاعس عن فرض روح المساواة في المجال العام، وأسميه في مجال الأفكار: حق الصمت في المجال العام ما دمنا على هذا الاختلاف. نتذكر جميعًا الحملة ضد فرنسا لاضطهادها الحجاب، وكان ذلك تدليسًا إذ شمل الحظر الطاقية اليهودية وكل الرموز الدينية حتى التزين بالصليب في المصوغات الذهبية وضع له قياس لا يجب أن يتجاوزه.
ليبقى كلام المسجد داخله وكلام الكنيسة داخلها. وليسمع كل ما أراد في سيارته وليُفرض الصمت على وسائل النقل العامة.
تجربة محمد علي في بناء مصر الحديثة خلفنا، وهي درسنا الذي لم نستوعبه بعد. لقد تسلم مجتمعًا لا يستطيع القبطي فيه أن يمر راكبًا أمام مسلم، وإذا قابله ماشيًا يجب أن يفسح له وينتقل إلى الجهة الأخرى من الرصيف، لكن الضابط الأجنبي الصغير أراد أن ينشئ دولة ففرض احترام المسيحيين بالقبضة الصارمة، وجعل الأفضلية بالكفاءة.
علينا أن نُفكِّر بالأخلاق لا بوصفها جينًا وراثيًا ولا حالة قلبية أو عقلية؛ بل بوصفها ثمرة القانون عندما يستمر طويلاً. وهكذا فالتحرش هو نتاج حالة سياسية، وقيادة سيارة في الاتجاه المعاكس لحركة السير في الطريق هو حالة سياسية ، والطفل الذي يترك علامة على سيارتك بمسمار أو قطعة نقد أو يلقي بطوبة على قطار، هو ابن لهذه الحالة السياسية، التي جعلت من والده ضحية فصار جلادًا لطفله وصار الطفل جلادًا لسيارة ساكنة أو قطار متحرك.
كل سلوك منحرف هو في جوهره تمرد غير واع ضد مبدأ الظلم، وثقة بالإفلات من العقاب كما يُفلت الآخرون. ولابد من وصف الوحش كاملاً، لأن سب الدعاة ليس الحل، بل هو طريق عاطفي للاستقطاب الضار، بينما يلزمنا العقل.
المقال القادم: في امتحان محمد هاشم..هل نجحنا؟