كانت نائمة

شعيدة بيت حانون، الجريمة والمقال من عام 2013، و ومن وقتها لم تتوقف جرائم الاستعمار الاستيطاني في فلسطين.

كأن المذبحة لم تقع..

سأعتبرها نائمة؛ تلك المرأة الثلاثينية من بيت حانون بشعرها المسدل في دلال.. هي نائمة فعلاً، أو تدعي النوم حتي لا تُفزِّع طفليها النائمين علي خاصرتها وفخذيها، كانا ولداً وبنتاً في الخامسة والثالثة. وهذه هي أقصي دقة في الوصف سمحت به أبعاد الصورة التي بدا فيها أيضاً زوجها.

الرجل الواقف في الصورة لم يكن يبكي، وهذا يعزز يقيني بأنها كانت نائمة، أو تتناوم، وأنه كان يحاول أن يوقظها ربما لتجهز المائدة، وهي ستقوم لتعيش خمسين عاماً أخري (حسب متوسط الأعمار في المناطق الآمنة).

كانت نائمة وليس من المنطق أن تستمر هكذا في سكونها لمدة ثمانية عشر ألفاً ومئتين وخمسين يوماً.. ليس لأحد أن يجبرها علي السكون كل هذه المدة، وليس من حقها أن تهرب كل هذه الأيام من طفليها لمجرد أنه لاحليب لديها أو دقيق. الطفلان لن يسمحا لها بذلك، سوف تنفصل هاتان الكتلتان، لتطالبا بقية الكتلة اللحمية بالعودة الي الحياة، ولسوف تقوم.

ليس من المنطق أن تتمخض مجزرة عن كل هذا السلام الطافح من نومها. وأنا أعرف خطورة الانسياق وراء الشائعات، هكذا تأمرني تربيتي السياسية، وهكذا حسمت موقفي من المذبحة.

المذبحة لم تقع، هكذا يأمرني جنوني، خاصة وأنني كنت في الاسكندرية قبل ساعات من جحيم بيت حانون ورأيت السماء بغيوم من ندف القطن الناصع البياض، كنت منشرحاً لغيوم الخريف، الغيوم البيضاء بصفاء تحت القبة الزرقاء تلتحم بزرقة البحر بينما تمرق السيارات علي الكورنيش بلطف بين كفي الزرقة.

سماء الله، سماء الرب، سماء بوذا، والسماء العارية التي تظلل شعوباً لاتعترف بإله، كلها سموات زرقاء بغيوم بيضاء عندما تصفو أو رمادية عندما تتعكر، فما بال يهوه يختص نفسه وشعبه المختار بسماء حمراء بلون الدم؟

لا، لا، لم تقع المذبحة.

من حقي ـ أنا الذي لا أصدق الاسرائيليين بشأن السلام ـ ألا أصدقهم بشأن الحرب. المذبحة بشعة كغيرها من مذابح دولة الابادة العنصرية، لكن بشاعتها في رعب الخطأ التقني الذي تؤسس له. ومن حقي أن أعتبرها لم تقع، وأن المرأة الثلاثينية وكل الشهداء الذين ودعتهم بيت حانون كانوا نائمين فحسب، وأن المحفات التي استقبلت أجساد أطفال بوجوه كالأقمار حملتهم الي أسرتهم الأكثر حناناً ودفئاً من بطن الأرض الولادة الأكول.

تصوروا أن خطأ تقنياً في حسابات المدفعية بدد ليل بيت حانون، في ذات اليوم الذي بدد فيه المخمورون الأمريكيون سلام الأعظمية ببغداد!

هل هو ميلاد مدرسة فنية جديدة في الابادة؟

هل رأي القتلة أننا تعايشنا مع عروض الموت الكلاسيكي فقرروا التأسيس لمدرسة جديدة من موت الصدفة؟

المذبحة لم تقع، هكذا يأمرني جنوني.

ولن أترك جنونكم وجنون العالم دون أن أحرضه عليكم لتؤمنوا معي بأن المذبحة لم تقع، ولا تأسوا كثيراً علي افتقادنا لعقل لم ينفعنا يوماً.

تصوروا الرعب الذي سنعيش فيه لو كان أولمرت صادقاً! تصوروا قانون الصدفة عندما يوسع من مداه، فيطلق الصواريخ النووية بدلاً من المدفعية التقليدية؟ هل ستكون مراكش بعيدة؟ وماذا لو سقط صاروخ من هذا النوع علي القاهرة ذات العشرين مليوناً؟!

ليتصور من سيبقون علي قيد الحياة منا وضعهم البائس عندما يكون الضحايا بعشرات الملايين لا العشرات فقط، ويكون عليهم أن يقطعوا كل الغابات دفعة واحدة لصنع ما يكفي من نعوش، وأن يحفروا بطن الكوكب في يوم واحد ويجبرونه علي ابتلاع ملايين الجثث.. أيهما يمكن أن ينفعهم في لحظات كهذه، العقل أم الجنون؟!

المذبحة لم تقع، هكذا يأمرني جبني، فـالبندقية التي ندفع فيها ثمن الكسرة والدواء، لا تقتل الأعداء ولاتطلق النيران الا عندما تستدير الي الخلف. واحتراماً لهذه الحقيقة التي اكتشفها أمل دنقل واستسلم بعدها للسرطان، أفكر ألف مرة قبل أن أطالب بالحرب، بل قبل أن أطالب ولو باللين بطرد سفير العنصرية الفظة.

وقد جربت ـ بلين أشد ـ المطالبة بالكف عن دعم الشعب السويسري، حاولت عبثاً أن أذكرهم بأنه ليس شعبهم؛ طالبت بوقف تجريف الثروة وارسالها الي بنوك الشعوب المستريحة، ولكن لاحياء لمن أنادي.

جربت باللين أن أطالب الأصدقاء بوقف حرب الابادة ضد الشعب المصري، في البر والبحر والجو، فلم أظفر بجواب، فكيف سأطلب من العدو أن يبطل قانون العمد أو قانون الصدفة في ابادة الشعب الفلسطيني؟!

المذبحة لم تقع، افتراض مجنون لكنه يحمينا من الموت كمداً. وعودوا الي صورة الزوج الفلسطيني صامتاً أمام كومة اللحم التي صنعتها الصدفة التكنولوجية من جسد زوجته وطفليه. لم يبك الرجل في عصر لم يعد يعترف بحساسية بكاء الرجال، فقط هو مثلنا، لم يعد لديه من الدمع ما يكفي لتوديع الشهداء.

وخير له ولنا أن نعتبر أن المذبحة لم تقع، من أن نودع شهداءنا دون بكاء.

——————————————————————————————————

  • وقعت المذبحة في 8 نوفمبر 2006 والمقال منشور في القدس العربي بذلك التاريخ، وقد عجز القلم عن متابعة آلة الحرب الاستيطانية في فلسطين. التي لاتتوقف عن الدوران.