كلنا سانتياجو

كلنا سانتياجو بطريقة أو بأخرى.
كلنا سانتياجو بطريقة أو بأخرى.

 

ماذا لو كانت الحياة أبد؟

وأية طاقة يحتاجها الخالدون، لكي يحتملوا الحياة، سواءًا حلوا في الفردوس أو في الجحيم؟

هل سيتألمون مثلما نتألم في حياتنا؛ لأنهم يضطرون لعيش ما سبق أن عاشوه بالأمس؟

ماذا سيفعل الكتاب منهم إذا رأوا أن عليهم كتابة وقراءة ما سبق أن كتبوه أو قرأوه من دون جدوى؟

هل سيكون في الفردوس أو في الجحيم قنوات خاصة بالأفلام كتلك التي أنعم بها علينا البيزنس الفضائي؟

لا أشعر بأي ألم لكون علاقتنا بالفضاء تقتصر على إطلاق أقمار الاتصالات المشتراة من الغير لبث الأفلام المشتراة من الغير؛ لأننا لو امتلكنا تكنولوجيا الحرب الفضائية فلن نقصف إلا بعضنا البعض. من الأفضل أن تقتصر علاقتنا بالفضاء على إطلاق القنوات التلفزيونية التي تجلب المتعة، ومن حسن حظنا أنها لا تعرض أخبارنا فحسب، التي تزيدنا يأسًا من الدنيا والآخرة، ولا تقتصر أفلامها على إنتاجنا الذي يبدو فيه الفن أكثر بلادة من الواقع. منتجات الغير الخيالية هي التي تقدم لنا فرصًا للمتعة تعيننا على واقعنا.

لم يكن من عادتي الاستسلام أمام شاشة التليفزيون. ولكن قنوات الدراما الأجنبية صالحتني على عادة المشاهدة، والأهم أنها  وفرت لي الملاذ الآمن من رهاب الكتابة، أقول: لا أكتب لأنني مشغول بمشاهدة فيلم جيد. هكذا من دون أن أشعر بالتقصير لأنني أهمل واجباتي، أو بالعجز لأن الكتابة غادرتني أو باليأس لأن  ما سأكتبه سبق أن كتبته أو كتبه غيري، بينما التقهقر مستمر.

***

أمام قنوات الأفلام أرحل إلى مناطق حارة كبلادنا، لكنها مشرقة بحياة أكثر خفة، وببشر يستميتون لكي يحيوها. هل الحياة في الكاريبي أخف من حياتنا حقاً أم هكذا تزينها الأفلام؟

من قنوات الأفلام يمكننا ـ علاوة على التصالح مع الحياة ـ اصطياد الحكمة من أفواه الممثلين؛ حتى في أشرطة التسلية الخفيفة، لكنها حكمة لا تنفعنا، إلا بقدر انتفاع سانتياجو بطل هيمنجواي في العجوز والبحر بالهيكل العظمي لسمكته العملاقة.

نحن مثل سانتياجو؛ لا نعود من المشاهدة إلا بالهيكل العظمي لحكمة الأفلام، فنغمض أعيننا راضين على أية حال.

في فيلم (لا أذكر عنوانه من كثرة ما رأيت في هذه الليالي البليدة) قال أحدهم لأنثاه التي تحول عنها: لم أكف عن حبك، فقط تغيرت الوسيلة. ضعفت الحواس وقويت الذاكرة.

حل وسط عبقري بين الأبدية المستحيلة، وبين الاتهام الفظيع للمنسحبين بالخيانة وانعدام الوفاء.

هل يمكن للرجل المتروك أو المرأة المتروكة أن يقدر أو تقدر هذه البلاغة؟

هل يمكن تدوير كل ما كان جميلاً في الذاكرة، والفرح به كما لو كان يحدث مجدداً؟

بشر الأفلام فقط بوسعهم أن يقولوا هذا. وهم، وليس نحن، بوسعهم أن يواصلوا الحياة من دون ضغينة. وبخفة، من غير أن يضطروا لحمل أحد الثقلين: تابوت الحب الميت أو صليب الغدر.

فيلم آخر أذكر عنوانه، لأنني شاهدته من ليلتين فقط، قدم حلاً عبقرياً لضجر التكرار.

في فيلم”50 first dates”   ” خمسون موعد أول” فقدت ذاكرة البطلة قدرتها على الاحتفاظ بأية ذكريات جديدة  بسبب حادث سيارة.

توقف خزينها من الذكريات عند تلك اللحظة، فصارت تستيقظ كل يوم لتنفيذ البرنامج الذي كانت أعدته ليوم الحادث. وتواطأ الجميع لإرضائها: ترتدي ذات الثياب، وتخرج إلى ذات الأماكن، ويقدم لها أبوها نسخة جديدة كل يوم من صحيفة يوم الحادث، ويحتفل معها كل يوم بعيد ميلاده، وتشاهد كل يوم شريطاً مسجلاً لمباراة البيسبول التي جرت في ذلك اليوم!

صارت الفتاة المثيرة للشفقة عبئاً على كل من حولها باستثناء المحظوظ الذي وقع في حبها، وتزوجها وأنجب منها؛ وظلت في كل مرة تستقبله بولع المرة الأولى.

***

في الحب نستمتع  بذاكرة قوية جداً، أو بلا ذاكرة على الإطلاق. لكننا في الحرب نحتاج إلى قوة الذاكرة فقط.

في الحرب النسيان خسارة مؤكدة، والهروب من التكرار إلى محو الذاكرة هو النهاية.

من غير الذاكرة لا يمكننا الاحتفاظ بإنسانيتنا وحساسيتنا تجاه الحياة، أو بحس العدالة الإنسانية.

حس العدالة وليس أكثر، هو ما يلزمنا لكي نستمر في مواجهة الفساد والطغيان وفي تمييز وجه العدو، من دون ضجر أو إحساس باللاجدوى.

هل الملل من تكرار الكتابة حول البديهيات وتوالي الهزائم  بالدأب ذاته هو الذي أدخل الوهن في قلوب المثقفين؟

للأسف الشواهد تقول هذا؛ فبعض من فقدوا حساسيتهم تجاه قضايا مثل التطبيع، وزيارة إسرائيل، وقعوا أسرى اليأس من تكرار القول، أو انتقلوا للمربع الآخر لمجرد الضجر من البقاء في الموقع ذاته!

وليس علينا إلا أن نسأل أنفسنا: لماذا نحن الأكثر ضجراً من بين كل أصحاب القضايا؟ لماذا لم ينس سود جنوب أفريقيا أو يستسلموا، لماذا لم ينس الأيرلنديون؟ عفواً، لقد اضطررت لكل هذا الالتفاف، كي أجد طريقة جديدة لقول الحقائق القديمة، التي لم تعد صالحة لإثارة النخوة.