الزميل ماركيز..كيف امتطى ظهر النمر دون أن يفترسه؟

Gabriel García Márquez
Gabriel García Márquez

حبيبتي، قرأته.

ليس مرة واحدة، بل مرتين؛ في ترجمه صالح علماني تحت عنوان “عشت لأروي” في جزأين، وترجمه طلعت شاهين بعنوان “أن تعيش لتحكي” في مجلد واحد.

وأنا معك في أن  جابرييل جارسيا ماركيز، قد عاش كما فعل همنجواي، ربما عاش هنا بمعنى دفع وقاسى أيضاً، هل قرأت في أحد حوارات ماركيز عن حكاية العظمة التي كان كتاب أمريكا اللاتينية المغتربين في باريس يمررونها على بعضهم البعض، لكي يصنعوا منها حساء، فلا تترك أي أثر في قدر الأخير؟!

كم من كتابنا تشرد كهمنجواي أو ماركيز في باريس، ولكنه اعتبر ما عاشه سراً شخصياً؟

سقف الإبداع شيء يتعلق بالقدرات الذاتية للكاتب أكثر من تعلقه بنوع الحياة، هذا ما أعتقد. وماركيز  ينبهنا في بداية المذكرات:” الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه”.

للأسف لم يتناول الفترة الباريسية في مذكراته، التي يقف فيها عند بداياته الصحفية والأدبية، طالباً متقاعداً في كلية الحقوق التي كان التخرج فيها حلم أبيه، بينما كان يوزع وقته بين البارات ودور الصحف.

يبدو ماركيز، في سيرته كما في رواياته، ماكينة قص أنجزها الله من أجل هذه المهمة فقط. لا نخرج من حكاية إلى أخرى إلا لنزداد يقينا بمراوغة فن السيرة الذاتية وعصيانه على التحديد لدرجة يصبح معها غير موجود أصلا.

المتعة الأخرى التي توفرها المذكرات هي فرصة التلصص على كاتب كبير ومتابعة مصادر رواياته؛ فالجنرال الذي ينتظر راتبه التقاعدي في “ليس لدى الكولونيل من يكاتبه” هو جده، والجدة العجائبية “أورسولا” في “مائة عام من العزلة” تحمل هي الأخرى ملامح من جدته، أما رائحة زوجة القبطان التي علقت بثياب أحد أبطال الجيل الثاني من مؤسسي “ماكوندو” في مائة عام من العزلة فقد علقت بثيابه هو شخصيا في إحدى إجازاته الصيفية، وهو من استمع إلى أمه التي حذرته من مخاطر الاقتراب من امرأة لها زوج  يتفاهم بالرصاص. وهي نصيحة غالية يجب أن تنصحها كل الأمهات لأبنائهن المراهقين!

نكتشف في  المذكرات أيضا أن عددا من أفضل قصصه وأفضل مشاهد رواياته ولد كأحلام رآها في مناماته وعرف في الصباح كيف يتذكرها ليرويها، أو ليروي بقوة جنونها.

في مقابل حاجتنا نحن القراء إلى التلصص عليه فإنه هو الآخر يحتاج إلى تواطؤنا، لكي نصدق هذه الشاعرية، التي تصل بها وقائع الجوع وأيام الحرمان والمخاطر السياسية، في بلد يسلي يغالب ضجره بالانقلابات والاغتيالات. ولكن ماركيز الذي تعاقد مع قارئه على الإمتاع والمؤانسة يتلقى هذه الخدمة منا بأريحية بالغة. وهو على كل حال لم يخدع أحداً، فقد نبه منذ البداية إلى أن ما نقرأه ليس هو ما حدث بالضبط، بل ما يريد هو أن يحكيه وبالطريقة التي يريدها أيضا، ولمن يبحثون عن مستحيل اسمه “الحقيقة” أن ينصرفوا من البداية!

PARIS - SEPTEMBER 11: Colombian writer and Nobel prize in literature winner Gabriel Garcia Marquez poses for a portrait session on September 11,1990 in Paris,France. (Photo by Ulf Andersen/Getty Images)
صحفية أمريكية كلفت نفسها مشقة البحث عن الأصدقاء الذين تناولهم ماركيز في سيرته، بحثا عن الحقائق النائمة تحت الحكايات. أحدهم قال لها إن ما يفعله ماركيز عادي “يكفي أن تعيشي في كولومبيا لتعرفي أن الواقعية السحرية هي ما نعيشه وما عليك إلا التدوين”!

هذه، عادة، هي مشكلات الحسد التي يتعرض لها الكاتب من أصدقائه غير الموهوبين. وهذه، تحديداً، المغالطة  التي يرتكبها عدد كبير من القراء حول العالم ليس بحق ماركيز وحده، بل بحق كل أدباء أمريكا اللاتينية الموهوبين على اعتبار أن “الواقعية السحرية” ملقاة هناك في الطرقات!

تعرفين يا حبيبتي كيف أعيش مرعوباً من بالوعة الصحافة، وكم تحدثنا طويلاً عن مخاوف الغرق في مياهها النتنة،  لذلك كان ماركيز الآخر أكثر إثارة  لفضولي؛  ماركيز الصحفي الذي يروي عن وقائع  كأنها وقعت في الصحف المصرية في زمان الحيوية الصحفية بأربعينيات وخمسينيات حتى أوائل ستينيات القرن العشرين.

ولابد أن الساحات الصحفية العربية الأخرى شهدت الظاهرة نفسها، حيث ولدت الصحافة من رحم الأدب، وحيث يختلط المجتمع الأدبي بالصحفي بالنضالي بمجتمع المتعة والسهر، الأمر الذي يجعل الصحف تتخاطف شاباً بوهيمياً وخجولاً فوق ذلك ـ أي عديم النفع بمعايير الصلاحية الصحفية ـ لمجرد أنه نشر قصة جيدة!

يروي ماركيز وقائع فشله في تحقيقات ميدانية بسبب خجله وانعدام مصادره. ولكنه مع ذلك لا يذهب لزيارة صديق في جريدة إلا ويجد من يدفع إليه بالورق والقلم طالبا البدء في العمل فورا. وهو قادر بعد ذلك على الجلوس خلف مكتب، لتدوين خمسين حلقة على لسان بحار وحيد ناج من غرق باخرته ليضاعف بقصته توزيع الصحيفة.

أريد أن أقول لك، إن أكثر ما كان يهمني في مذكرات ماركيز، هو معرفة كيف امتطى ظهر النمر الصحفي، وكيف ترجل عنه من دون أن يلتهمه. إنه قلقي الذي أعيشه كل وأنا أكتب الأعمدة والمقالات الصحفية، ذلك النوع المخيف من الكتابة بموعد محدد، ولا أجد في ظله فرصة لاستراحة أو هدنة للتأمل.

أثقلت عليك؟ ماذا أفعل إن كانت هذه هي الطريقة الوحيدة لاستحضارك؟

ترقم أصابعي على الكيبورد،  ولا أتطلع إلى الشاشة، لأنني أنظر إليك، أنسى هذه الآلة الباردة، الحبيبة مع ذلك، لأستعيد التفافنا، أتكلم من دون انقطاع وتستمعين، بكأسين في يدينا، تمتصين نبيذك الأبيض، لون مائي، وألعق من كأسي أحمرك الدوار مع القمر.