صفحات من كتاب: خطابات ضد الحرب
تيتزيانو تيرتساني
ترجمة: أماني فوزي حبشي
مراجعة: د. حسين محمود
10 سبتمبر 2010: اليوم المفقود
في الحياة توجد أيام لا يحدث فيها شيء، أيام تمر بلا ذكر، بلا أثر، وكأنها خارج الحياة. عندما أمعن التفكير أجد أن هذا هو طابع معظم الأيام، ولكننا لا نسأل كيف تركنا الأيام تمر بهذه الطريقة أمام أعيينا إلا عندما يصبح عدد الأيام الباقية لنا محدودا جدًا. ولكن هكذا هو الإنسان: لا يقدر ما فات إلا عندما تمر الأعوام ويصبح الشيء في عداد الماضي، عندئذ ندرك أنه كان بمقدورنا الحصول عليه، وعادة ما يكون الأوان قد فات.
إن العاشر من سبتمبر 2001 بالنسبة لي، وبالنسبة لآخرين أيضًا، كان يومًا من هذا النوع: يوم لا أتذكر عنه أي شيء على الإطلاق. أعرف أنني كنت في مصيف أورزينيا، وأن الصيف قد انتهى، وبدأت الأسرة تتوزع من جديد في كل اتجاه، وربما كنت أعد ملابسي وأوراقي لأعود إلى حيث بياتي الشتوي، في الهند.
كنت أفكر في الرحيل بعد عيد ميلادي، ولكنني لم أكن أحصى الأيام، ومضى العاشر من سبتمبر عام 2001 دون أن أشعر به، وكأنه لم يكن له وجود في التقويم. يا للأسف! لأنه بالنسبة إلىّ، وبالنسبة لنا جميعًا – حتى بالنسبة لأولئك الذين يرفضون حتى هذا اليوم تصديق هذا الأمر -، كان ذلك اليوم يوما خاصا جدًا، أحد تلك الأيام التي كان لابد لنا، أن نستمتع بكل لحظة منها. كان اليوم الأخير لحياتنا الماضية: قبل الحادي عشر من سبتمبر، قبل البرجين التوأم، قبل الهمجية الجديدة، قبل تحديد حرياتنا، قبل التعصب العظيم، قبل الحرب التكنولوجية ومذابح السجناء والمدنيين الأبرياء، قبل الزيف العظيم ونزعة التوافق، واللامبالاة، وأسوأ من كل هذا، قبل الغضب البائس والكبرياء في غير موضعها. إنه اليوم الأخير قبل أن يسقط خيالنا المحلق نحو المزيد من الحب والأخوة والروحانية والسعادة والفرحة إلى هاوية الكراهية والتمييز والمادية والألم.
أعرف: في الظاهر لم يتغير الكثير أو ربما لا شيء تقريبًا في حياتنا الشخصية. فالمنبه يضرب كل يوم في الساعة نفسها، ونقوم بالعمل نفسه، ومازالت الهواتف المحمولة المختلفة ترن في عربات القطار، ومازلت الصحف تصدر كل يوم بجرعاتها المعتادة من أنصاف الأكاذيب وأنصاف الحقائق. ولكنه وهم، وهم لحظة الصمت، ذلك الصمت الفاصل بين رؤية انفجار من بعيد ووصول صوته الرعدي إليك. أما الانفجار فقد وقع: وكان انفجارًا ضخمًا ومريعًا. وسوف يصل صوت الانفجار فيما بعد إلينا، وسيصم آذاننا. وربما اكتسحنا معه أيضًا. من الأفضل أن نستعد في التوقيت الصحيح، أن نفكر قبل أن نبدأ في الركض هربا، حتى ولو كان الركض مجازيا، في محاولة انقاذ الأطفال، أو في أن نلتقط شيئًا أخيرًا نضعه في حقائب يدنا.
لقد تغير العالم. لابد أن نتغير نحن أيضًا بدورنا. قبل كل شيء لابد لنا ان نتوقف عن التظاهر بأن كل شيء لايزال كما كان، وأنه يمكننا الاستمرار في الحياة، بخسة، حياة عادية. مع كل ما يحدث في العالم، لا يمكن أن تكون حياتنا، ولا يجب، أن تكون عادية، لابد لنا وأن نخجل من تلك الحياة العادية.
إن هذا الانطباع بأن كل شيء قد تغير يصدمني على الفور. اتصل بي أحد اصدقائي هاتفيًا وقال لي ببساطة: ادر التلفاز، بسرعة. عندما فعلت ذلك، رأيت على الهواء مباشرة الطائرة الثانية وهي تنفجر، وفكرت: بيرل هاربر! إنها حرب جديدة.
مكثت ملتصقًا بالبي بي سي بعض الوقت ثم بالسي إن إن لبضعة ساعات، ثم خرجت لأتجول في الغابة. أتذكر الدهشة التي اصابتني عندما ادركت أن الطبيعة لا تبالي بما كان يحدث: بدأت ثمار الكستناء في النضج، والسحب الأولى بدأت صعودها إلى الوادي. في الأفق كنت أسمع صوت انحدار الشلال البعيد، كالمعتاد، وصوت أجراس ماعز جارتي برونالبا. كانت الطبيعة بالتأكيد لا تبالي بمآسي البشر، كما ولو كنا لا نساوي شيئًا بالفعل، وكما وكأنه يمكننا الاختفاء دون أن نترك فراغا كبيرا.
ربما لأنني قضيت معظم سنوات نضجي في آسيا، فأنا مقتنع تمامًا أن الكل واحد، وكما يلخص بشكل جيد رمز التاي لين ويان، ففي قلب النور بذور الظلمة وفي قلب الظلام توجد نقطة نور، الأمر الذي تركني أفكر في أن ذلك الرعب الذي شهدته الآن… فرصة جيدة. لقد رأى العالم كله ما حدث. الآن سيدرك الجميع، الآن سيستيقظون ليعيدوا التفكير في كل شيء: العلاقات بين الدول، بين الأديان، العلاقات مع الطببعة، العلاقة نفسها بين انسان وآخر. كانت فرصة جيدة لنقوم بعمل فحص للضمير، ولأن نتحمل مسئولياتنا كرجال غربيين وربما نقوم بعمل قفزة نوعية في مفهومنا للحياة.
في مواجهة ما رأيته للتو على التلفاز وما نتوقعه الآن، لا يمكن للمرء أن يستمر في الحياة بطريقة عادية، وكأنك عند عودتك إلى المنزل رأيت الماعز وهي تأكل العشب.
لا أعتقد أنني في حياتي كلها جلست أمام التلفاز مثلما فعلت في الأيام التي تلت هذا الحدث. كنت أجلس أمامه من الصباح إلى المساء، كنت تقريبًا لا أنام. كنت أفكر طوال الوقت في تلك العبارة: فرصة جيدة. بحكم المهنة، وأمام أي حقيقة رسمية كنت دائمًا أحاول رؤية امكانية وجود أي بديل، في الصراعات كنت أحاول دائمًا أن أفهم، ليس فقط دوافع طرف من الأطراف، ولكن أيضًا دوافع الطرف الآخر. في عام 1973، وبالاشتراك مع جون كلود بومونتي في لوموند والمصور عباس[1]، كنت أول من عبروا خطوط الجبهة في جنوب فيتنام لأتحدث مع “العدو”، المتمثل في الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام الفيت كونج.
على النهج نفسه، وبغية أن نفهم الإرهابيين الذين كانوا قد حاولوا أن يُفجروا البرجين التؤأم في نيويورك، كنت قد نجحت عام 1996، مرتين على التوالي، في الدخول إلى “جامعة الجهاد” لأتحدث مع اتباع أسامة بن لادن.
كنت أفكر في أنه سيكون من المفيد إعادة سرد تلك القصة باختصار والانطباعات الناتجة عن تلك الزيارتين لكي نحاول تخيل العالم من وجهة نظر الإرهابيين. ولكنني لم استطع الكتابة.
في الرابع عشر من سبتمبر كان عيد ميلادي الثالث والسبعين، وهو التاريخ الذي فيه تنتهي رسميًا علاقة عملي الجيدة مع مجلة دير شبيغل الألمانية، التي بدأت منذ حوالي ثلاثين عامًا، ولكن أصبح بالفعل منذ عام 1997، بناء على طلب مني، كنوع من البيات الشتوي المتفق عليه.
وفي كتاب ” في آسيا”[2]، الكتاب الذي كان يجمع كل الحكايات الكبيرة والصغيرة والتي كنت شاهدًا عليها، قلت بالفعل كل ما كنت أرغب في قوله عن الصحافة. ومنذ تلك اللحظة قمت بالفعل بالاعتزال عن العالم. فأنا أقضي جزء كبيرا من وقتي في الهيمالايا، واستمتع بشدة ألا يكون لدي تاريخ انتهاء لشيء سوى الطبيعة: فالظلام هو اللحظة التي اذهب إلى فيها مخدعي، واستيقظ مع أول نور للصباح. حيث أسكن، في مكان منعزل على مسافة ساعتين بالسيارة من أقرب مدينة آهلة بالسكان، وأكثر من ساعة سيرًا على الاقدام عبورًا بغابة من الأشجار الوردية العملاقة، لا يوجد نور ولا هاتف، وهكذا لا توجد أي مصادر للشرود هنا سوى ذلك الشرود المحبب مع الحيوانات وللطيور والرياح والجبال. لقد فقدت عادة قراءة الصحف، وأيضًا عندما أذهب إلى أوروبا أشعر أنني استغنى عنها بكل سرور: إن القصص تتكرر ويبدو لي أنني قرأتها بالفعل منذ عدة أعوام، عندما كانت مكتوبة بطريقة أفضل.
إن الشتاء بالنسبة إلى هو أجمل فصول السنة في الهيمالايا. السماء صافية جدًا والجبال تبدو قريبة جدًا. وصل بي الأمر إلى أنني وضعت خطط السفر، ولكن كما يقول الهنود وهم يشيرون إلى السماء: أتريد أن تُضحك باغوان (الإله)؟ حسنًا: اطلعه على خططك.
وهكذا قضيت عيد ميلادي في الكتابة، ولم أكتب مقالا من تلك المقالات الصحفية التي تتقيد فيها بعدد معين من الكلمات، بمقدمة جذابة تشد عين القارئ، وإنما كتبت خطابا تلقائيا كأنني أكتبه لصديق.
احب كتابة الخطابات. كنت دائمًا أتصور أنني لو كنت وُلدت غنيًا ومنذ ثلاثمائة عامًا، هناك حيث ولدت فقيرًا في فلورنسا، لم أكن لأتمنى سوى أن أسافر حول العالم لأكتب الخطابات. لقد سمحت لي الصحافة، بطريقة ما، بأن أفعل شيئًا مشابهًا ولكن مع تحديد المساحة، وسرعة التسليم، ومتطلبات اللغة الصحفية. الآن، أخيرًا، يمكنني أن أكتب خطابات ببساطة.
ذلك الخطاب الذي ارسلته من أورزينيا، ارسلته عن طريق البريد الالكتروني إلى فيروتشو دي بورتولي، مدير الكوريري ديللا سيرا، مع رسالة مكتوب فيها: انظر أنت، حسب الاتفاق.
[1] مصور إيراني يعيش في باريس منذ عام 1970. ونشرت صوره في عدد من الدوريات والمجلات الدولية اضافة الى ثلاثة كتب. وغطى عددا من الازمات السياسية والاجتماعية لبلدان الجنوب من بيافرا الى بنجلاديتش الى فيتنام الى الشرق الاوسط الى جنوب افريقيا (المراجع).
[2] دار نشر Longanesi، ميلانو، عام 1998