رجل وامرأة مع جثة زوجها وثلاث شموع مطفأة

نجلاء والي تلقي كلمتها في حفل الجائزة

حصلت الدكتورة نجلاء والي الأستاذ بجامعة تورينو على الجائزة الوطنية للترجمة في إيطاليا، وهي أرفع جائزة تمنحها الحكومة الإيطالية في هذا المجال. تأسست الجائزة عام ١٩٨٩ تحت راية وزارة التراث الثقافي، وقد حصلت نجلاء والي على الجائزة تقديرًا لجهودها في الترجمة، وقام بتسليم الجائزة رئيس البرلمان الإيطالي، في حضور وزير الثقافة وعدد كبير من الأكاديميين والمختصين بالترجمة. وأقيم الحفل أول أمس الثلاثاء في مكتبة أنجليكا العريقة بروما.

وهنا ترجمتها لإحدى قصص الشاعر والكاتب الإيطالي الأشهر جابرييلي دانونسيو.

سهرة جنائزية

جابرييلي دانونسيو

ترجمة: نجلاء والي

كان جثمان العمدة بياجو ميلا ممددًا فى فراشه، بين أربعة شموع فى وسط الغرفه، وقد غطت وجهه ملاءة مرطبة بالماء والخل . وكانت زوجته وشقيقه يسهران على جانبي الفراش يرعيانه ويراقبانه .

روز ميلا، تبلغ الخامسه والعشرين من العمر تقريبا. فتاة مفعمة بالحيوية، بيضاء ذات جبهه منخفضة قليلا وحاجبين طويلين مقوسين وعيناها رماديتان واسعتان تتلونان بألوان الطيف كالعقيق، ولغزارة شعرها ، كان جيدها وصدغها مختفيين تماما خلف خصلاته المتمرده، تشع الصحه فى كل جزء من جسدها ولجلدها النضر عطر فاكهه شهيه .

ايميدو ميلا ، قسيس يبلغ من العمر مثلها خمسة وعشرين عاما ، نحيل الجسد له وجه برونزى اللون كمن يعيشون فى القري تحت أشعة الشمس الحارقه ، وشعره رقيق أحمر يغطى وجناته، وأسنانه قوية ناصعه البياض تسبغ على ابتسامته جمالا رجوليا وعيناه تميلان للون الأصفر، و تلمعان أحيانا فتبدوان كعملتين جديدتين من الذهب .

خيم الصمت عليهما. وبينما كانت زوجة المتوفى تحرك مسبحة زجاجية بين أناملها، كان شقيقه ينظر الى حبات المسبحة وهى تنساب بين يدها.  وقد بدت عليهما اللامبالاه التى يبديها الريفيون أمام الموت .

قال ايمديو بتنهيده طويله:

ليلة حاره.

رفعت روز عينيها لتوافقه.

كان الضوء الخافت فى الغرفه يهتز بأهتزاز الشموع ، فكان ظلها يتجمع تارة فى أحد الاركان وتارة أخرى على أحد الجدران متغيرا فى الشكل والقوة. وكان زجاج النافذه مفتوحا على حين بقيت درفتى الشيش مغلقتين. من لحظة لأخرى كانت الستائر البيضاء المصنوعة من القماش الخفيف الشفاف، تهتز مثل تردد الأنفاس.  فبدا بياجو وكأنه نائم فى فراشه الناصع البياض.

سقطت كلمات ايميدو فى هوة الصمت ، وأحنت روزا رأسها واستأنفت تحريك المسبحة ببطء . كانت قطرات العرق تتلألأ على وجنتيها وهى تتنفس بصعوبه .

بعد قليل سألها ايمديو:

– فى أى ساعه سيأتون غدا لأخذه ؟

فاجابت بنبرة صوتها الطبيعى

فى العاشره مع  “جماعة الكنيسة”

و لاذا مرة أخرى بالصمت، ومن الحقول كان نقيق الضفادع الملح يصلهما حاملا معه رائحة العشب الأخضر، وفى هذا الصمت المطبق ، سمعت روز أصوات ازدراد مخنوقة تخرج من جسد الميت، وبحركة تنم عن الرعب انتفضت من على مقعدها مبتعده .

حاول شقيق الزوج تهدئتها:

لا تخشي شيئًا يا روز إنها مجرد سوائل، وأمسك بيديها لتهدئتها.

أمسكت روزا بيديه بطريقه تلقائيه، وتشبثت بهما وهى واقفه على قدميها، وشحذت اذنيها لتصغي  زائغة العينين ، واستمرت اصوات الازدراد المخنوقه داخل بطن الميت وبدا أنها تصعد نحو فمه. فأومأ اليها شقيق زوجها لتجلس فوق صندوق الزفاف المغطى بوسادة من قماش منقوش بالورد.

ليس هناك ما يدعو يا روز للخوف، هدئى من روعك.

جلست روزا بجانبه ممسكة بيده وهى ما تزال مضطربة، فتلامست ذراعاهما على الصندوق صغير الحجم.

وعاد الصمت يخيم عليهما مرة أخرى بينما صدح فى الخارج من بعيد غناء الحاصدين.

فقالت المرأه فى محاولة منها للتحايل على الخوف والتعب:

يقومون بالحصاد فى الليل على ضوء القمر.

لم يتفوه ايميدو بكلمة  واحدة ، وسحبت يدها من يده إذ شعرت أن  تلامسهما فى تلك اللحظه قد بدأ يغمرها بإحساس غامض بعدم الراحة.

فى هذه اللحظه كان كلا منهما مشغولا بالفكرة نفسها، وقد سيطرت عليهما فجأة نفس الذكرى . ذكرى حب يافع فى أيام الصبا الاولى .

كانا فى ذلك الوقت يعيشان فى بيوت “كالدور” التى تقع على تل مشمس عند مفترق الطرق.وعلى حدود حقل من القمح كان هناك سور عال من الحجاره والاسمنت، وفى الناحية الجنوبيه التى يمتلك ارضها اقارب روزا، حيث الشمس أقل حرارة، كانت اشجار الفاكهه تَنَوَّعَ وتتكاثر وفى الربيع تزدهر فى جو من البهجه والهدوء، وكانت الاقواس الفضية والوردية والبنفسجيه تنثنى فى السماء متوجة الحائط وتهتز كأنها ترتفع فى الهواء محدثة طنين نحل يجلب النعاس.

فى ذلك الوقت كانت روزا تعتاد الغناء متخذة مكانها خلف السور فى منطقة الاشجار

فكان صوتها النقى الصافى ينساب كأنه نافورة تحت تيجان الورود .

وطيلة فترة نقاهته كان ايمديو يستمع الى غنائها .

فى تلك الايام  كان ضعيفا ونهما . ولكى يهرب من النظام الغذائى القاسى كان يخرج خلسة من المنزل، يخبىء فى ملابسة قطعه كبيره من الخبز ويمشى بمحاذاة السور حتى يصل الى المكان الذى يجد فيه سعادته، ويجلس مسندا ظهره الى الحجارة الساخنه ويبدأ فى الاكل ، فيقضم الخبز ويختار سنبلة طريه من القمح ، وكانت كل حبة فى السنبله تحتوى على قطره من سائل يشبه اللبن وله طعم الدقيق الطازج وكانت متعة التذوق والاستماع تختلطان فى نفسه فتغذيه بإحساس ممتع لا حدود له.

هكذا فى تلك الدعه، وسط تلك الحراره وتلك الروائح التى كانت تعطى للهواء طعم الخمر اللذيذ كان صوت الفتاة  الانثوى بالنسبة له مثل غذاء طبيعى يبعثه إلى الحياة من جديد.

كان غناء روزا سببا فى شفائه وحتى بعد شفائه  ظل صوت روزا يمثل له طعاما حسيا.

وازدادت الآلفة بين العائلتين ونما فى قلب ايميدو حب من ذلك النوع الخجول الصامت الذى كان يفترس كل قوى مراهقتة.

وفى ظهيرة أحد أيام سبتمبر قبل أن يرحل ايمديو للدراسة فى مدرسة الرهبان اجتمعت العائلتان فى نزهة فى الغابه على شاطىء النهر .

كان يوما رطبا وكانت العربات الثلاث التى تجرها الثيران تجرى بطول سياج أعواد الغاب المزدهرة .

تناولوا الوجبة الخفيفة على الحشائش فى بقعه دائرية من الارض تحيط بها اشجار البلوط العملاقة وكانت الحشائش القصيرة مليئة بزهور صغيرة بنفسجية اللون تنشر فى الهواء رائحة رقيقة فى كل مكان  وبالداخل بين أوراق الشجر كانت تسقط بقع واسعه من أشعة الشمس ، كان النهر يبدو ساكنًا وقد خيم عليه هدوء البحيرات، ومن خلال مياهه الصافيه كانت النباتات المائيه تبدو راقده بدون أى حركة.

بعد الوجبة الخلويه ذهب البعض للتمشية على الشاطىء بينما بقى الاخرون مستلقين على ظهورهم .

وجد كلا من ايمديو وروزا نفسيهما معا فتشابكت ذراعاهما وبدأ السير فى ممر ضيق بين النباتات الكثيفة .

كانت روزا تستند تماما عليه وتضحك، وأوراق الشجر تتساقط أثناء مرورها وتعض بأسنانها فروع الاشجار المرة، وتميل برأسها للوراء لتشاهد الطيور وهى تأوى الى أعشاشها.

وفجاة اثناء حركتها انزلق مشبك شعرها الذى كان على شكل ضفدعة فانتشر شعرها بغزارة مذهله .

انحنى ايمديو معها ليلتقط مشبك شعرها واثناء قيامهما أصطدمت رأسهما قليلا فاخذت روزا تصيح ضاحكة، وتسند جبينها بيديها:

اه ، اه

فنظر اليها و شعر برعشه تسرى فى كل أوصاله وأحس بشحوب وجهه حتى خشي ان يفتضح أمره .

ونزعت روزا باظافرها عودا من جذع شجرة ولفت بها ضفائرها بطريقة عشوائية وسريعة لتضع حدا لتمرد خصلات شعرها على رقبتها، وثبتت أسنان المشط فى شعرها بينما الاوراق المبعثرة الخضراء والمائل بعضها للون الاحمر كانت تخرج من بين الخصلات بشكل غير منتظم.

سألته روزا :

أيعجبك هكذا ؟

لم ينبس إيمديو ببنت شفة، فلم يكن يعرف بم يجيبها .

أوه…. لا يعجبك أم أنك أخرس ؟

 فواتته الرغبه فى ان يركع على ركبتيه. ولما وجد روزا تضحك بعدم رضا، شعر بأنه على وشك البكاء حزنا على عجزه أعن إيجاد كلمة واحده يجيبها بها.

وواصلا سيرهما وعند نقطة معينه عاقت شجرة صغيرة الطريق أمامهما. فرفع ايمديو غصن الشجرة بكلتا يديه ومرت روز من تحت الفروع الخضراء التى بدت لوهله كأنها تتوجها.

 وعلى مسافة قريبه وجدا أنفسهما أمام بئر على جانبيه حوضان من الاحجار المستطيلة، تعانقت الاشجار الكثيفة حوله وفوقه مكونة هاله خضراء، جعلت الظل عميقا ويكاد يكون رطبا. وكان وجه الخضرة ينعكس تماما فى الماء الذى يصل الى نصف حاجز الطوب.

قالت روزا وهى تمد ذراعيها .

– ما أجمل البقاء هنا!

ثم جمعت الماء فى راحة يدها بنشوة وأخذت تشرب، كانت المياه تتساقط من بين أصابعها فتتناثر قطراتها على ثيابها كاللؤلؤ. وبعد أن ارتوت جمعت بعضا من الماء بكلتا يديها وقدمتها لرفيقها بدلال:

  اتريد أن تشرب؟

فتمتم ايميدو فى بلاهة:

لا أشعر بالعطش

 فقذفته بالماء فى وجهه وندت عن شفتها السفلى حركة توحى بالازدراء.

واستلقت فى احد الأحواض الجافه كأنها فى مهد طفل بينما ظلت قدماها خارج الحوض وهى تهزهما بعصبية ثم انتفضت فجأة ورمقته بنظرة ذات مغزى وقالت:

هيا نذهب.

بدآ السير وعادا الى مكان اجتماع العائلتين فى صمت تام. كانت طيور الشحرور تغرد فوق رأسيهما وخيوط الشمس الأفقيه تتخلل خطواتهما وعبير الغابة يفوح حولهما.

ورحل ايمديو بعد ذلك بأيام قليلة. وبعدها بشهور قليله تزوج أخوه روزا .

وفى السنين الأولتين التىين قضاهما فى الدير كان إيمديو لايكف عن التفكير فى زوجة أخيه فبينما كان القساوسه يشرحون ملخص التاريخ المقدس، كان عقله يسبح هائما وراء طيف روزا. وفى قاعة الدرس بينما كان زملاؤه مختبئين وراء منصات القراءة يمارسون أفعالا شائنه ، كان يخبيء وجهه بيديه ويترك نفسه للخيالات الحسيه ، وفى الكنيسه بينما كانت تتردد الابتهالات الدينية للعذراء، كان خياله يهرب وراء وحى روزا .

ولما كان قد عرف الموبقات الحسيه من زملائه ظهر له مشهد الغابة فى ظلال جديدة. وكان الشك يعذبه باستمرار فى أن الفطنة قد خانته ويتحسر على افلات قطف الثمرة التى أهديت إليه.

أحقا كان الامر كذلك؟ هل أحبته روزا فى يوم ما؟ إذن لقد كان على مشارف سعادة غامرة دون أن يدرى.

وكانت الفكرة تزداد كل يوم حدة وإصرارًا .

و كان كل يوم يمر يثقل كاهله بألم شديد حتى أصبحت هذه الفكرة وسط الحياة الرتيبه للرهبان بالنسبة له بمثابة المرض الذى لايرجى شفاؤه. وأمام عدم امكانية إصلاح ما فسد، أصابه إحباط شديد واكتئاب لاحد له .

إذن فلن يعرف أبدا حقيقة مشاعرها.

كانت الشموع تذرف دموعها فى الغرفة. ونفحات الهواء تدخل من بين فواصل درفتى النافذة المغلقة، وتجمع الستائر على شكل قوس .

وقد غلب روزا النوم فكانت تغلق جفونها بين الحين والحين. وما أن توشك رأسها على الوقوع فوق صدرها ، حتى تعود فتفتح عينيها بسرعة.

سألها القسيس برفق:

– أأنت متعبة ؟

 فاجابته وهى تلتقط أنفاسها وتقيم جذعها الى الوراء:

-لا…

 وعندما خيم الصمت مرة أخرى، عاد النوم يداعبها ويغلب على حواسها وكانت تستند برأسها الى الحائط بينما غطى شعرها كل جيدها. وكانت أنفاسها تخرج بطيئة منتظمة  من فمها نصف المفتوح.  كانت جميلة وكان أكثر مايثير فيها حركة ثدييها وركبتاها اللتان كان من الممكن رؤيتهما من خلال ثوبها الشفاف.

وفجأة هبت لفحة هواء هزت الستائر بعنف وأطفأت اقرب شمعتين الى النافذه .

فكر إيمديو وقد شعر برغبة حسية مفاجئه بعد ان نظر اليها وهى نائمه .

– ماذا لو قبلتها؟

كانت أغانى الرجال لاتزال تترامى فى ليل يونيو فى جلال الترنيمات الدينيه .

وكان الرد عليها يأتى من بعيد  وبعيد بنغمات مختلفة ودون مصاحبة ألات موسيقيه. وعلى الرغم من ان القمر كان بدرًا إلا أنه لم يستطع أن يمنع أول خيوط الفجر من أن تنشر ضياءها على النافذه الخشبيه وأن تتسلل من خلال فتحاتها .

ألتفت إيمديو الى فراش الميت وبينما كانت عيناه تمران على الجسد الخامد القاتم اللون ، توقفتا على غير ارادته  على يده ، وكانت منتفخة ومقوسة يميل لونها الى الاصفرار ويتخلل ظاهرها عروق ممتقعة فسحب عينيه على الفور.

شيئا فشيئا وفى أثناء نعاسها مالت رأس روزا ناحية القسيس المضطرب ورسمت على الحائط  نصف دائرة.

وأقلقت نعومة انحناء رأسها الجميل نومها وظهرت بين جفنيها اللذين ارتفعا فى بطء ومضة من الوان الطيف ثم غاصت مرة أخرى فى بياضهما كسقوط ورقة من زهرة البنفسج فى اللبن.

وبقى إيمديو ساكنا مستندا الى كتفه وهو يحبس أنفاسه خوفا من إيقاظ النائمه. كان يسيطر عليه حزن وشجن بالغين حتى بدت دقات قلبه ونبضات عروقه و صدغيه كأنها تملأ الغرفة بأكملها.

وعندما عادت روزا الى النوم، شعر تدريجيا بالوهن والضعف ووجد نفسه يتوه فى احساس من الحنان لايمكن مقاومته ، ونظر الى نحرها وقد التفت حوله قلائد فينوس فزادته رغبة واشتهاء وتنسم أنفاسها الساخنه ورائحة شعرها .

وجاءت لفحة أخرى من الهواء محملة بعبق الليل فأطفأت الشمعة الثالثه.

وهكذا بدون تفكير أو خوف استسلم تماما لرغبته وقبلّ الساهر شفتى المرأة.

أيقظت القبلة روزا فانتفضت وفتحت عينيها المندهشتين فى وجه شقيق زوجها وغرقت فى الشحوب. ثم جمعت شعرها خلف عنقها وظلت فى مكانها مستقيمة الظهر وهى تنظر أمامها فى الظلال المتغيره الاشكال.

من اطفأ الشمعة ؟

فأجابها القسيس:

الهواء…

ولم يتفوها بكلمة بعدها، وظل الاثنان كما كانا يجلسان من قبل جنبا الى جنب فوق صندوق الزفاف وأذرعهما متلامسة وهما يعانيان من التردد المؤلم . ومحاولين بنوع من الذرائع العقلية تحاشي ان يحكم ضميرهما  هذا الفعل و يدينه. و فى تلقائية وجه كلا منهما اهتمامه الى أشياء خارجيه وسط هذه الحالة الروحية مبالغا فى تصنع الاهتمام بها ومضيفا عليها طابعه الخاص وتملكتهما حالة من النشوة.

كانت الاغانى تتابع فى الليل وتتهادى فى الهواء طويلا طويلا ثم تخفت بين صدي وصدي فى عذوبة.

وكانت أصوات الرجال والنساء تشكل نغما متآلفا محببا ، فى بعض الاحيان كان صوت احدهم يرتفع عاليا عن باقي الاصوات فى نغمة موسيقيه وحيدة تنساق من حولها باقى الاصوات مثل تناسق الأمواج حول تيار النهر.

وعلى فترات متقطعه وفى مطلع كل أغنية كانت تُسمع اهتزازات الجيتار المعدنيه فى تناغم مع الوقفات الموسيقيه وبين كل وقفة وأخرى كانت ضربات النورج المنتظمه تُسمع علي الارض . كان الاثنان يستمعان اليها.

وربما اختلف العبير بأختلاف الرياح فانتشرت  رائحة الموالح  نفاذة من تل أورلاندو، وفاحت روائح الزهور من حدائق سكاليا قوية نفاذة حتى أنها كانت تصبغ الهواء بمذاق حلوى الزفاف ومن مياه فارينا، كان شذى زهور الجيجول يصل فيبعث على الانتعاش عند استنشاقه وكأنه رشفة ماء.

وبقى الاثنان فوق الصندوق وقد انتابتهما حالة من الجمود والصمت وسيطرت عليهما شهوانية الليلة المقمرة .

كانت الشمعة الاخيرة تترنح أمامهما بسرعة، ومع انحنائها تتساقط قطراتها ، فتبدو فى كل لحظة وكأنها على وشك الانطفاء .

وظل الاثنان فى مكانهما لا يتحركان، وعلى وجهيهما أمارات القلق، يحدقان بأعين  ثابتة تتطلع إلى ارتعاشة الشمعة وهى تخبو، وفجأة اطفأتها الرياح الثملة. حينئذ ، دون خوف وبنهم متبادل أخذ الرجل والمرأة يقتربان فى وقت واحد ويتعانقان ويبحث كل منهما بشفتيه عن شفتى الآخر دون وعى، ودون  كلمة ليغرق كل منهما الآخر فى حنانه.