في “مدرسة المشاغبين” كان صمته أبلغ من شغب عادل إمام وسعيد صالح. وبهذا الصمت وحزن عميق في العينين لا يشبه إلا حزن عبدالحليم حافظ تمكن أحمد زكي من اصطياد محبة الجمهور.
حزن واحد دفعت به مدينة الزقازيق على دفعتين، بفارق عشرين عامًا، كي يحتل حاملاه النجومية، رغم الاختلاف بينهما؛ إذ كان عبدالحليم بادي المرض، بينما كان أحمد زكي بادي الصحة، لكنه في النهاية لم ينج، إذ اكتشف المرض اللعين، ووجد المصريون أنفسهم أسرى خوف على حياة فردية واحدة، يتابعون مصيرها طوال أسابيع قضاها أحمد زكي في المستشفى.
الجميع صار متخصصًا في المرض الوحيد الذي لا ينطق المصريون اسمه، إنما يشيرون إليه بـ “المرض الوِحِش” وهو وحش وشرس لأنه يتمسك بكلمته عادة في مواجهة الأخيار فقط، أو هكذا نظن لأن موت الأشرار لا يعنينا.
تمسكنا لآخر نفس برفض الموت. وأخذنا نتابع خطوات علاج يواصلها أطباء يائسون لم يجرؤ أحدهم علي إعلان يأسه.
الأطباء المصريون الذين لا تعوزهم خبرة التعامل مع مرض وحش أصبح شعبيا بفضل الطعام المسرطن، أرادوا الاحتماء بتميمة فرنسية لفتح ثغرة وهمية في جدار اليأس، وربما لإعفاء أنفسهم من مسؤولية التقصير أمامنا، نحن أهل أحمد زكي. وهكذا فإن الفرنسي الذي يستشيره الأطباء المصريون يوميا صار شهيرًا في كل بيت باسمه المفرد “شيفالييه” هكذا ببساطة كأننا نتحدث عن واحد من العائلة.
انتزع أحمد زكي له ولنا مساحة يومية من صحف لا تخصنا منذ زمن طويل، أحمد زكي أكل اليوم ربع فرخة، أحمد زكي طلب كيلو كباب من المطعم الفلاني، وأصبح الخلاف بين أن يكون أكل ربع فرخة أم طلب كيلو كباب ولم يأكله، تأسيسا جديدا لثقافة الاختلاف، لكنها للأسف مبنية علي الغش، تمامًا مثل مزاعم الإصلاح!
المحررون الفنيون تركوا أنفسهم ـ راضين ـ لادعاءات عمال الخدمة في المستشفي رغم أنهم يعرفون بأن الجسد لم يكن يقدر علي تلقي أكثر من الأكسجين النقي.
أحمد زكي الذي أعاد تمثيل حياة عبد الحليم حافظ جرجر أحزاننا علي حليم، وهما معا لا يمكن أن يحضرا إلا وقد أعادا إلينا سيرة سعاد حسني، التي لم تأت مثل الرجلين من المحافظة نفسها ولم تسبح في الترع ذاتها التي وتحصل على البلهارسيا التي قتلت الرجلين.
الفتيان وقعا في حب الفتاة، وللثلاثة عيون ضاحكة تخبئ داخلها للحساسين فقط مؤونة من الحزن شفافة ونبيلة، أو هي في الأصل حزينة تعلمت الضحك فقط «عشان الصورة تطلع حلوة».
ربما يختلف عبد الحليم عنهما بأن بكاء عينيه كان يسبق ضحكهما، كان حزنه مشهرًا في مواجهة من يتطلع إلى وجهه، مثلما يبدو حزن طفل شديد التأنيب لوالديه علي إهمالهم له ذات يوم، بينما أخفى أحمد زكي وأخفت سعاد حزنهما كما نخفي أسرارنا الغالية.
الثلاثة تبناهم العبقري صلاح جاهين، وبعد رحيل حليم لم يعد له إلا أحمد وسعاد فقدمهما في سيناريو وأغنيات حلقات “هو وهي” التليفزيونية عن قصص سناء البيسي. كان ظهورهما معا في تلك الحلقات بهجة للحواس. والعنوان أكثر من دال لأننا لو شئنا إقامة نصب للأنوثة المصرية فلن يكون غير سعاد، وبالمثل لا يمكن أن يكون نموذج الذكر غير أحمد زكي بشعره الأكرت وسمرته المتوسطة التي توحد جنوب مصر بشمالها.
لحليم وسعاد وأحمد حيوات عادية مثلنا، هم مجرد “هو و هي” لم يغادروا الحالة البشرية الأرضية، وهم من بين الفنانين جميعا المعروفين بأسمائهم. وفي ألقابهم ـ التي انبثقت من بين الناس ـ تواضع ظاهر واحتفاء ببشريتهم وفرديتهم، العندليب وليس سلطان الطرب مثلا، سندريلا وليس سيدة الشاشة أو نجمة الجماهير، وأحمد زكي هو أحمد زكي، وبالكاد فهو الفتي الأسمر، لا وحش الشاشة ولا الزعيم.
كل منهم مسيحنا الذي تحمل عنا الآلام علي صليب اليتم والوحدة أو الوحدة دون يتم، ثم المرض.
قبل شهر واحد من فاجعة اكتشاف مرضه رأيته. كان وحيدا علي الطاولة المجاورة لي، في مقهي الجريون يحاور مثلي الشيشة في صمت. لم أجد في نفسي حاجة لأن أحييه رغم حبي له، ورغم أنه لا يعاني من الانتفاش الكريه الذي يعانيه بعض النجوم ويجعل التكبر عليهم صدقة. ظللت في صمتي أنتظر أصدقاء تأخروا، وهو كذلك كان يرعي صمته، وفي عينيه رغم ضوء المقهي الخافت يلمع الحنان نفسه الذي كان في عيني «أحمد الشاعر» الطالب الخجول في مدرسة المشاغبين.
كان دوره في المسرحية التي أطلقت كل نجومها “مدرسة المشاغبين” أن يجلس خجولاً ملمومًا علي نفسه في آخر الفصل يحاول النجاح بين طلاب فصله كثيري الصخب: عادل إمام، سعيد صالح، ويونس شلبي والمعلمة التي خسرها الفن المصري سهير البابلي. وهو بذينك العينين فقط ـ لأنه لم يكن يتحرك أو يتكلم ـ استطاع أن يكون موجودا بقوة.
فقط كان ينظر، وقد ظل ينظر حتي لو تكلم وتعارك وأطلق الرصاص في أعماله الأخري، ظل السر في عينيه القريبتين جدا الصادقتين جدا المقنعتين دائما.
عاش ليكون الممثل المحترف الذي يترك للسيناريست عمله وللمخرج عمله، وليس الطاغية الذي يحرك كل شيء؛ لذلك فقد كان الوحيد الذي عبر محنة السينما الجديدة، وقد عصفت بكل أبناء جيله. علي أن السر لا يكمن في التواضع فقط بكل تأكيد، فأحمد زكي نوع نادر من الممثلين لا يقف بإتقانه عند حدود تقمصه للدور في الرواية، بل يتعداه إلي تلبس روح المشاهد نفسه، الذي لا يعود متفرجا بل مشاركا في العمل . هذا التعدي بالتقمص جعله واقفا علي قدميه لم ينهزم إلا أمام المرض الوحش.