مُستَهَلّ
تسلط هذه المقالة الضوء على فيلم ” لا لا لاند ” إنتاج عام 2016 لمخرجه “داميان تشازيل” كمدخل لفهم الأعمال الفنية ” ما بعد الحداثية ” Post Modernism، عبر التعريف بالعديد ميكانيزمات التي احتواها الفيلم مثل الإقتباس و التناص و الباستيش Pastiche.
مُقاربة “ما بعد الحداثة “
زمنيا بحسب الباحث ” د.علي وطفة ” فإن مرحلة ما بعد الحداثة ” قد بدأت تاريخيا منذ عام 1968 وهي المرحلة التي عرفت بثورة الطلاب في مختلف عواصم العالم” ، بينما يشرح الناقد ” إيهاب حسن ” ما بعد الحداثة – مفاهيميا – بأنها ” فكر يرفض الشمولية في التفكير ولا سيما النظريات الكبرى مثل نظرية كارل ماركس، نظرية هيغل، ووضعية كونت، ونظرية التحليل النفسي…إلخ. ويركز على الجزئيات والرؤى المجهرية للكون والوجود” ، و يُضيف ” يرفض أنصار ما بعد الحداثة مفاهيم حداثية مثل: العقل والذات والعقلانية والمنطق والحقيقة، فهي مقولات مرفوضة. والحقيقة وهم لا طائل منه، ذلك لأن الحقيقية مرتهنة بعدد من المعايير الخاصة بالعقل والمنطق وهذه بدورها مرفوضة أيضا”
حدوتة الفيلم الحذِرة
بحذر شديد يقترب فيلم “لا لا لاند ” من تلك الروح – روح ما بعد الحداثة – القلقة؛ شابة و شاب يبحثان ” عن الحب الحقيقي ” و لكن تزداد صعوبة عثورهما على ذلك الحب بسبب ” طموحهما الشخصي، الأول يحلم بامتلاك نادي لموسيقى الجاز، و الثانية تحلم بأن تكون نجمة سينمائية شهيرة، يتحقق الحلمان و لكنهما يفقدان بعضهما البعض، ليلتقيا بعد أن جرت بينهما مياه كثيرة في نهر الحياة ، ويطُل الحنين حذرا خجولا من بين ثنايا نظراتهما المٌتبادل تُفسرها شفرات مُعتمة و إحالات مُضمرة .
روح قلِقة
الفيلم ” مابعد الحداثي ” بقدر انتصاره للحياة و معطياتها و حذره و تفكيكه ” لقصص الحُب الكُبري”؛ علاقة الحب داخل هذا الفيلم لم تدمرها الحروب و لا الموت و لا المرض و لا الثورات، الحُب دُمر بسبب الطموح الشخصي الذي ينتصر له الفيلم بصورة حذرة.
وروح الفيلم القلقة تفسرها إحالات و شفرات و من قلب تلك التوترات و التراكيب تسطع روح “الباستيش” .؛ أولى تلك عرض الفيلم عبر تقنية الCinema Scope بنسبة أبعاد رؤية Aspect Ratio عريضة 2.66:1 تحيلنا فورا لأفلام الخمسينيات الاستعراضية لتحل محل أبعاد الرؤية المعتادة في الأفلام 1.37:1 المعترف بها من قبل الأكاديمة الأمريكية للفنون أي أن مجال رؤية في ” لا لا لاند ” في صالات العرض ضعفي مجال الرؤية المُستخدم في باقي الأفلام الأمر الذي يضاعف من تأثير الفيلم على المتلقي على نحو ما ، مرورا بالبناء السيمفوني للفيلم في صورة فصول الفيلم / فصول السنة ربيع – صيف – خريف – شتاء / إحالة لسيمفونية الفصول الأربعة و حركات السيمفونيات الأربعة:
- الحركة الأولى Allegro والكلمة تعني سريع.
- الحركة الثانية Andante وتعني بطيء.
- الحركة الثالثة Moderato وتعني معتدل السرعة أو سرعة المشي.
- الحركة الرابعة Presto وتعني سريع جدا.
وهي الإحالات التي اقتربت كثيرا من روح الفيلم عبر فصوله.
ما الباستيش؟
Pastiche باستيش كلمة فرنسية مشتقة من أصل إيطالي pasticcio، المشتقة بدورها من pâté و هي أكلة متعددة المكونات و المقادير، وبحسب الناقد سيد عبد الله فإن الباستيش، هو سفسفة وأخلاط الكلام خليطمن عناصر ومقومات سابقة، أو مرقعة الدراويش Hotchpotch.
فيلم ” لا لا لاند ” باعتماده أسلوب الباستيش و التورية هو مدخلنا لفهم أهم سمات الفيلم ما بعد الحداثي و استكشاف سمات مرحلة ما بعد بعد الحداثة Post-Postmodernism، الباستيش يرتبط بصناع الأفلام المنفتحين لمزج العديد من الأساليب الفنية، و الأنواع genre والاتجاهات الفنية داخل نفس الفيلم فبعكس البارودي Parody أسلوب الباستيش في إعادة انتاجه للأعمال السابقة يميل إلى الاحتفاء بدلا من السخرية، حيث يعتمد على توظيف الفيلم في بنيته لعناصر بعينها اجتزئها من أفلام معينة مرتبطة على نحو ما بموضوع الفيلم ووائم بينها بطريقته الخاصة عبر عدة إحالات بصرية و سردية.
إحالات “لا لا لاند ” و علاماته
حكاية 6 أفلام مروا أمامنا
المشهد الافتتاحي اقتبسه داميان تشازيل من الفيلم الاستعراضي الفرنسي Les Demoiselles De Rochefort إنتاج 1967 من تأليف و إخراج جاك ديمي و يظهر تأثر ” تشازيل” في تنفيذه للاستعراض عبر توزيعه للمجاميع الراقصة على الصفين و ووضع الجسد و المنظور و إختيار الطريق السريع و السيارات توظيف ضوء النهار لتوزيع إضاءة المشهد الافتتاحي لفيلم “لا لا لاند”.
مشهد ” الاستعداد للسهرة ” تمتد مصادر اقتباسه عبر مقاطع الاستعراضية لمقاطع قياس الملابس ، و الرقص والانطلاق بتأثر واضح من فيلم قصة الحي الغربي West Side Story إنتاج عام 1961 للمخرجين جيروم روبينز، و روبرت وايز.
العلامات الدرامية
الأيقونة والإشارة و الرمز
السيميوطيقا هي علم العلامات، و هي ما تفسر لنا طريقة عمل أنظمة العلامات و التي تشمل؛ الصور و الإيماءات والحركات التي يتم عبرها تبادل المعلومات عن العالم و عن أنفسهم و من ثم يتم خلق المعنى على الشاشة.
أبسط أنواع العلامات هي العلامة التي يمكن التعرف عليها على الفور وفقا للناقد الانجليزي” مارتن إسلن” لانها تمثل ما تدل عليه بواسطة صورة مباشرة عليه ، أو بتسميتها اليونانية القديمة الأيقونة Icon ويبدو تأثر ” تشازيل” واضحا بالأيقونات في هذا المشهد الذي اقتبسه من فيلم Singin’ in the rain إنتاج عام 1952 للمخرجين ستانلي دونين و جين كيلي.
أو أن يتم توظيف تلك العلامة عبر إظهارها بصورة واضحة و مباشرة كما حدث في هذا المشهد الذي نرى فيه بوضوح بوستر فيلم كازابلانكا إنتاج 1942 ووجه الممثلة انجريد بيرجمان الحالم بصورة شبيهة لنفس نظرة ايما ستون الحالمة في نفس اللقطة.
النوع الثاني من العلامات، هي الإيماءات، فنحن نعرف المقصود أكثر إذا صحبت الكلمة إيماءة ، الإيماءة نستخدمها في حياتنا الواقعية و يحاكيها الممثلون غالبا، وهو ما يبدو جليا في مشهد الرقص فوق الربوة وتأثر المخرج ” تشيزل “واقتباسه- حد التطابق – لمشهد رقص بالباتيناج فريد استير و و جينجر روجرز في الفيلم الاستعراضي Shall we dance انتاج عام 1937 للمخرج مارك ساندريتش.
النوع الثالث من تلك العلامات تختلف عن سابقاتها في عدم وجود علاقة عضوية يتم التعرف عليها في الحال مع مدلولاتها و يسمى هذا النوع من العلامات الرمز Symbol وتستمد العلامات الرمزية من العُرف.
مثال ذلك مشهد احتدام المناقشة بين ريان جوسلين و ايما ستون إلى حد التلاسن ، اختار المخرج أن ينهي الصدام مابينهم بصوت وصورة احتراق طعام العشاء في الفرن، وكأنه يستعير التعبير الأمريكي They are burnt out أي بمعنى تم استنزاف تلك العلاقة حد الاحتراق.
الباستيش يتجلى و يظهر مرة أخرى عبر اقتباس مشهد الرقص بين النجوم المتلألئة عبر توظيف نفس نمط الديكور واكسسورات وتوزيع الإضاءة ، والتداخل حيث تأتي تأدية ايما ستون و ريان جوسلين لرقصة الفالس في فيلم “لا لا لاند ” في مقابل رقصة الTap Dancing أو النقر على الأرض بكعوب الأحذية التي أداها كلا من فريد استير و اليانور باول في فيلم Broadway melody of 1940 إنتاج عام 1940 للمخرج نورمان توروج.
تجدر الإشارة إلى أن المخرج المصري حسين كمال تأثر بنورمان توروج عند تنفيذ الأول لمشهد رقصة عبد الحليم و ميرفت أمين في فيلمه الاستعراضي الأشهر ” أبي فوق الشجرة ” إنتاج عام 1969.
ختام
الباستيش هو توصيف لأي عمل فني / بصري / موسيقي / أدبي / سينمائي / مسرحي يُحاكي الأساليب الفنية المختلطة لفنان واحد أو لفنانين متعددين، فيلم ” لا لا لاند” باعتماده أسلوب الباستيش و التورية هو مدخلنا لفهم أهم سمات الفيلم المابعد حداثي وسمات مرحلة ما بعد بعد الحداثة “Post-Post Modernism “في السينما عامة و الفيلم الاستعراضي على وجه الخصوص.
في كتابه القيم فلسفة الفن يصف “د.صلاح قنصوة” فنون ما بعد الحداثة بأنها ” لا تعترف بالعمق، فما يوجد بالفعل سطح موضوعي، ومن ثم تسقط من حسابها مسألة المعنى والدلالة”، مُجملا رأيه بقوله “فن ما بعد الحداثة لا يستهدف الخلود ، لا يدعي القيام بالتعبير أو الإيهام فالمهم لديها هو الموضوعية التي تعني تفتيت الذات الإنسانية ، و تفكيك خطاباتها ، و تخليص العمل الفني من الكليشيهات ، فلا يوجد شيء وراء الخلفية ، أو وراء السطح ، لا عمق و لا سر و لا قصد مبيت “.
* نشر بمجلة فنون، ربيع 2017.