منذ سنوات طويلة أتجنب مشاهدة المواطنين الشرفاء على الشاشة، لسببين: الأول، حس العدالة، وهو فطرة إنسانية عامة لا تخصني وحدي. من غير المقبول أن يتقاضوا الملايين نظير عنف يمارسونه من ستديوهات مكيفة ومريحة، بينما كان المواطنون الشرفاء من طلقاء السجون يمارسون عنفهم في الشارع لقاء علبة سجائر أو علبة كشري.
السبب الثاني أنني تعلمت في السنة الأولى لكلية الإعلام أن المذيع ضيف يحل فجأة على الأسرة، وينبغي أن تكون لغته ونبرة حديثه ولغة جسده مهذبة بما يتفق مع وضعه كضيف عليه واجب الاحترام لبيوت الناس. فإن لم يكن حسن العلم على الأقل يجب أن يكون حسن الأدب.
لكن قدمي تتعثر في مقاطع الفيديو على تويتر قضاءً وقدرًا، أراها على صفحات أصدقاء يعلقون عليها، فأفتحها فضولاً، وتذهلني مجددًا لغة الخطاب، طبعًا هي سذاجة مني إذ أتصور أن الغياب سيغير الأحوال!
من أحدث ما رأيت في هذا المجال، الهجوم بصوت خارج من البطن وبالعين والحاجب على المصريين العائدين من الخارج على اعتبار أنهم غير راضين عن الحجر في غرف المدينة الجامعية، وقد تضمن هذا الهجوم عددًا من الاستراتيجيات الإعلامية الخاطئة والرسائل المغرضة التي ترتب على صاحبها بموجب القوانين المعمول بها قضايا بث الكراهية وتعكير السلم العام، وهذه الرسائل لا تقف عند هذه المناسبة، فهي مكررة في مناسبات مختلفة؛ وهي:
أولاً: التعميم المغرض لوضع جماعة ما في كتلة واحدة. وفي الفيديو المعروض للتعليقات هناك ادعاء على العائدين، بأنهم كلهم مستائين من مستوى مكان العزل، بينما توجد تصريحات لعائدين في بوابة الأهرام سعداء جدًا، ويقدمون الشكر للرئيس ولرئيس جامعة القاهرة على الخدمات المقدمة.
ثانيًا: اعتبار جهة الإدارة والوطن شيئًا واحدًا؛ وبالتالي فأية ملاحظة على مستوى خدمة أو قرار ما تصبح إساءة إلى مصر: إلى البشر والأرض والسماء والهرم والنيل!
ثالثًا: وبالمخالفة لثانيًا، بعد أن يوحد الوطن مع القائد يعود ليصادر الوطن لنفسه، يرفع الراية، ويتحدث بنون الجماعة نيابة عن مصر «هذه إمكانياتنا، هذه ظروفنا». ولا أحد يسأله: من أنتم؟ من أنت؟ هل أنت الخازندار؟ والأطرف أنه لا يفهم أن وضعه بالغ الهشاشة، وأنه قد يخطئ في يوم بالمبالغة أو إساءة التقدير فيُعامل كما لو كان معارضًا!
رابعًا: تترتب على ثالثًا. بعد أن يصير المذيع متحدثًا باسم الهرم والنيل من الطبيعي أن يمنح نفسه الحق في أن يطلب من العائد ألا يعود ومن المقيم أن يغور في داهية تأخذه إن لم تكن مصر التي يملكها المذيع لا تعجبه!
خامسًا: استراتيجية الوقيعة بين فئات المواطنين وإثارة الحسد بينهم أسلوب دائم. وبخصوص واقعة الحجر فالحديث عن العالقين باعتبارهم عائدين بثروات فيه مغالطة أو جهل بأحوال الفئة التي عادت. المتعاقدون في الخليج لا يزالون هناك وفي أعمالهم، ومن عادوا هم من فئة المسافرين بـ «فيزا حرة» أو «فيزا سياحية» يذهبون للبحث عن عمل، ويواجهون البطالة هناك ويعولهم أقاربهم المتواجدون في البلد المعني، ثم يعملون لبعض الوقت ليسددوا ديونهم، وقد يجدون أو لا يجدون بعد ذلك قروشًا تساعد أهلهم في مصر.
هم باختصار الفئة التي كانت مرشحة للموت في مياه المتوسط، لكنها تخشى ركوب مراكب الظلمات. أي أنهم من فاقدي الأمل قبل وبعد السفر. ومن يعرف هذه الحقيقة يجب ألا ينفخ كل عروق رقبته ويقول لهم «راجعين بفلوسكم» روحوا ادفعوا في حجر الفنادق في مرسى علم.
سادسًا: مرسى علم لا يدخله الأغنياء أو بالاختيار فحسب، بل يكون دخوله إجباريًا حسب خط سير الترحيل، العائدون من مدريد مثلا لم يكن أمامهم سوى مرسى علم وفندق محدد ومدفوع مقدمًا مع تذكرة الطائرة. وبينهم باحثون جامعيون استدانوا ليدفعوا لهذا العزل.
سابعًا: لو أصبح لدى كل الناس وعي بحجم الإهانة التي يوجهونها لأنفسهم بمشاهدة المواطنين الشرفاء المتنكرين في صورة مذيعين، ما كنت بحاجة لكتابة هذا الكلام.