الأبله الأمريكي .. نبوءة آشبي المحققة

هال آشبي

  هال آشبي واحد من النبهاء الذين استلهموا دوستويفسكي في السينما، وفتحوا أمام الفن السابع بابًا مختلفًا من الغنى، ليس بتحويل الرواية بأبطالها إلى فيلم بل باستلهام ثيمة أو سمات شخصية وبناء قصة جديدة مختلفة. أخذ آشبي من «الأبله» سلامه الذاتي وانعدام أنانيته وشهواته ليمنحها لبستاني أنيق في بيت منعزل على أطراف المدينة فيلمه Being There. ظهر الفيلم عام ١٩٧٩ عن رواية للكاتب جيرزي كوزينسكي، بعد تسع سنوات من صدورها، وقد أعدها بنفسه للسينما بمشاركة روبرت سي جونز.

 البستاني، لا يقرأ ولا يكتب، ولم يغادر مكانه أبدًا، لكنه يستمد كل ما يعرفه عن العالم الخارجي من خلال مشاهدة التليفزيون. وعقب وفاة سيده يتعرض للطرد من البيت، ويخرج إلى الشارع دون مقاومة أو ادعاء حق. يمضي بتسليم غريب، لكن مصادفة ستجعل سيارة فخمة تقل سيدة تصدمه تسأله إن كان من الممكن أن تقدم له الرعاية في بيتها بدلاً من المستشفى فلا يمانع.

 نرى السيارة تعبر بوابة ضخمة محروسة لقصر شاسع، وسنرى أن المرأة متوسطة العمر زوجة لرجل مسن على فراش المرض، ولديهم في البيت مستشفى كامل الاستعدادات.

دوستويفسكي

 وبالسهولة التي دخل بها الأمير ميشكين إلى قلوب الجنرال إيبانتشين وزوجته وبناته، نفذ تشانس البستاني إلى قلب المرأة جميلة وزوجها المريض الذي سنكتشف أنه بالغ النفوذ، وتقريبًا هو نوع من أب روحي يصنع الرؤساء والسياسات في حزبه. تستمر إقامته في بيت العجوز ويأتي الرئيس للتشاور مع حامية فيقدم له تشانس، باعتباره صديقًا، ويسألانه عن رأيه في كيفية الخروج من أزمة تمر بها البلاد؛ فيتفوه ببعض عبارات عن العناية بالحدائق، يعتبرها الرئيس مجازًا لما يجب أن يحدث في الدولة؛ فيذكره بالاسم في خطابه إلى الأمة الأمريكية مستخدمًا عباراته عن فصول النمو وفصول الحصاد. في البيت الأبيض يبدأ البحث عن ماضي الرجل، دون أن يعثروا على أي شيء يدل على وجوه، ويبدأ الشك في أن أحد جهازي الأمن قد أخفى اسمه من السجلات. يفحصون حتى ملابسه، ويعرفون أنها علامات تجارية فخمة تعود إلى عقود خلت، لقد كان يفحصون حتى ملابسه، ويعرفون أنها علامات تجارية فخمة تعود إلى عقود خلت، يفحصون حتى ملابسه، ويعرفون أنها علامات تجارية فخمة تعود إلى عقود خلت. فتشانس Chance ـ ولنا أن نتأمل دلالة الاسم ـ يرتدي من ملابس مخدومه السابق. 

 رغم غياب المعلومات عن ماضيه تمدد شهرة تشانس. تواصل الصحف وشبكات التليفزيون مطارداتها العنيدة لتشانس جاردنر، والجميع يجد لعباراته البسيطة معاني كبيرة، حتى عندما يعترف بأنه لا يقرأ ولا يكتب في أكثر من لقاء، لا ينصرف ذهنهم إلى معنى الأمية أبدًا.

اللقطة الأخيرة من الفيلم، في اللحظة التي اتفق فيها المتنافسون على اختياره مرشحًا، كان تشانس قد ذهب يتمشى على شاطئ البحيرة يرفع غصنًا ميتتًا من فوق نبتة صغيرة لتحيا.

يذهب الفيلم في اتجاهات مختلفة؛ فإلى جانب إبداعه لميشكين أمريكي يقدم هجائية لهشاشة وضحالة الطبقة السياسية والإعلام، وهو كذلك يومئ إلى أن التليفزيون لا يقدم للمجتمع إلا المزيد من البلهاء، وقد نرى أحدهم رئيسًا ذات يوم!

 كأن هال كان يتنبأ عام ١٩٧٩ بما سيحدث في ربيع ٢٠١١ عندما كفرت الشعوب بالطبقة السياسية وجنحت إلى اختيار اليمين المتطرف، في أوروبا وفي هبَّات الربيع العربي التي قُمعت موجتها الأولى، بينما كان اختيار ترامب هو التجلي الأمريكي للاستعصاء السياسي ذاته.

 الفيلم، لا يقدم رأي الناخب الأمريكي في  النخبة السياسية، بل يذهب أبعد من ذلك؛ فيبرز انعدام ثقة هذه النخبة في نفسها، عندما لم تجد قيادات الحزب سوى تشانس لترشيحه للرئاسة، حيث لا أحد غيره يمكنه أن يكسب السباق الرئاسي! 

  رأت النخبة السياسية أن تستثمر في بلاهة الناخب، فدفعت بالأبله إلى الصدارة. والسؤال الأكبر الذي يطرحه الفيلم هو: هل من نظام في الكون أم أن العشوائية تحكم مصائرنا؟ هل هو التدبير أم الحظ والفرصة غير المنتظرة؟ في رأي آشبي أن الحياة رهينة الحظ عندما يمزح!