المرأة التي تنظر

قصة: عزت القمحاوي

للفنان الهندي Avanish Trivedi

قفزا إلى الترام بعد أن تحرك. استقبلتهما عاصفة من الصراخ المستنكر، ارتبك الرجل الغريب عن المدينة ولم يفهم شيئًا. لكن رفيقته أدركت أنها عربة النساء. ولم تبال للصراخ. 

لو فاتهما هذا الترام فلن يكون بوسعه اللحاق بآخر قطار. خاطر بالقدوم إليها في ظل  هذه الظروف، وكان ينوي قضاء ليلته في فندق ويسافر في اليوم التالي، لكنها لم توافقه حتى لا يتعرض لمزيد من الخطر. عندما رأت الترام داخلاً إلى المحطة لم تفكر بأي شئ سوى الوصول إلى أي باب. وحتى لو انتبهت إلى أنها عربة النساء قبل أن يقفزا ما ترددت في دفعه إليها. 

لضرورات الوضوح سنفترض أن المرأة اسمها لمياء، وإكرامًا لوجه الغموض لن نمنح الرجل اسمًا، وقد  وقف في مكانه متجمدًا على أول السلم خلف باب العربة، مندهشًا من استمرار الجلبة وإشارات الاستنكار باتجاهه، أحس بالضيق الذي يحسه لحظة استيقاظه  في مكان غريب، عاجزًا عن إدراك وجوده أو تذكر السبب الذي جعله هنا. 

لمياء التي كانت قد تقدمته بدرجتين. انحنت عليه وهمست في أذنه بتفسير الوضع. ثم مدت إليه يدها فتلقفها، وصعدت أمامه. وقفا بعد خطوة واحدة من السلم متشبثين بقائم العربة المواجه للباب. من جانبه كان عدم التوغل إلى  فسحة أقل زحامًا وسط العربة نوعًا من الاعتذار الصامت عن خطأ  رتَّبته الظروف، ومن جانبها كان عدم التقدم رفضًا للاندماج في عربة لا تحب أن تكون فيها حتى لو استقلت الترام بمفردها، فهي ترى أن النساء يخرجن أسوأ ما فيهن في غياب الرجال. انحسرت الصرخات من طرفي العربة لتستقر في بقعة من مرتديات الأسود في الوسط، ثم تناقص الصخب وتحول إلى نظرات مقتحمة، وبين صوت صفعات العجلات لنتوءات القضيبين، تصله ثرثرة تخبو وتشتد مثل جمر خلَّفه اللهب، يتناوب الترميد والتوهج مع خفوت واشتداد الريح.

ـلاتهتم،  فيالمحطةالقادمةتُغيِّرُالعربة.

سمعت لمياء الجملة الهامسة الموجهة إلي رفيقها، فنظرت تستطلع صاحبة الصوت التي تتشبث معهما بذات القائم. وجدت على وجه المرأة ابتسامة لم تفهمها. ليست راية الأمان التي نرفعها عمدًا لطمأنة غريب ضل الطريق، أبدًا ليست تلك الابتسامة التي نصطنعها بالمباعدة بين الشدقين، لنخرجها كصدقة نرجو بها الثواب. 

فم المرأة يبتسم، وعيناها كذلك. لكن مركز الابتسام ليس في  فمها ولا في عينيها ولا في الوجه كله، بدت الابتسامة حلوة ومقلقة كما لو كانت السطح الرقراق لنبع  يصعب تقدير عمقه. وذلك العمق المتعذر تقديره هو الذي جعل لمياء متأكدة من  أن ابتسامة هذه المرأة تحتضن. نعم. هذا بالضبط الوصف الدقيق الذي توصلت إليه. تحتضن من؟ هذا هو ما يُقلقها.

بحنق، أخذت لمياء تتفحص المرأة التي تركت ابتسامتها الواسعة على وجهها. هل هي ساهية حقًا؟ في الوقت نفسه تفحصت رفيقها الذي استعاد هدوءه وصار مبتسمًا. أحست بجلبة في قلبها كالتي تسمعها عند انهيار رصَّة طويلة من الأواني في المطبخ. 

لم تهدأ كركبة الغيرة في قلبها إلا تحت جلبة أعلى صنعتها الدهشة؛ إذ انتبهت إلى أن المرأة تشبهها بشكل لا يُصدَّق، وتضع حجابًا أنيقًا كالذي ترتديه. في بداية تعارفهما، امتدح رفيقها طريقتها في ربطه. لقد حببتيني فيما لا أحبه. أسعدها ذلك، وجعلها تتراجع عن فكرة التخلي عن الحجاب. المرأة لها كذلك القوام الجميل في غير صخب الذي يحبه رفيقها، والقامة الفرعاء مثلها، أكلها الفضول  للتأكد فاقتربت منها كي  تلامسها بحيث يبدو ذلك عفويًا من أثر الاهتزاز. 

إذا قلنا إن لمياء في الخامسة والأربعين؛ فالأخرى  في نحو الخامسة والستين أو أكثر، ولم تزل مقبولة جدًا؛ بل تبدو شهية. فكَّرت لمياء بأن ما تبقى لها ليس بالقليل، ولوهلة  تفتحت زهور مرج فل في قلبها. أمامها عشرون عامًا على الأقل لتستمتع فيها. ألم يكن بوسعك الانتظار؟ كانت تسأله كل مرة بأسى حقيقي. لكنها الآن تحس للمرة الأولى أن جرح سؤالها اللائم لرفيقها صار أقل إيلامًا. كلما أحبته أكثر كانت تتذكر بأسف أن مصادفة بسيطة كان بوسعها أن تُعجِّل بتعارفهما خمسة عشر عامًا. حصلت لمياء على وظيفة  في مؤسسة كان قد تركها  قبل ذلك بشهرين اثنين. وبعد كل تلك السنوات قابلته.  ولم تعرف أبدًا إلى من تتوجه باللوم؛ فاستراحت إلى لومه. ألم تكن تستطيع الانتظار شهرين؟! لكنها الآن تحس بالسعادة تغمرها. في الخامسة والستين سأكون هذه المرأة . دققت في ابتسامتها المحتضنة مجددًا؛ فانطفأت الزهور وذبلت. 

 لم تعد المرأة الأخرى مجرد مثال على مستقبل لمياء السعيد، عادت منافسة تتوسع ابتسامتها وتحتوي الرجل. صار واضحًا أنها استبعدتها من حضنها وصارت تحتضنه الآن بمفرده . أخذت لمياء تُقلِّب بصرها بين رفيقها والمرأة الغريبة. كان يبتسم بخفر لا تحبه فيه الكثير من النساء لكن لمياء تحبه، كانت تحبه جدًا، والآن خلاص! كرهت خجله هذا، ولا تعرف لماذا يبتسم لهذه الأخرى. أووف.

 انتبهت إلى أن المرأة ترتدي الأزرق، لكن بدرجة أفتح من الأزرق الملكي الذي ترتديه هي. تحركت لتواجهها مجددًا. حدَّقت فيها بتحد، لكن المرأة لم تتراجع عن ابتسامتها. والتي تراجعت عن تصورها هي لمياء نفسها. أحست مجددًا أن المرأة تحتويهما معًا؛  فتبخرت معظم غيرتها وهدأت. دققت في عمق عينيها. لم ترمشا، بل على العكس، حدَّقت المرأة بدورها إلى بؤبؤ عين لمياء كأنها تنقِّب في عمقها عن جوهرة سقطت منها هناك. 

أحست لمياء أنها تقف مسلوبة القوى بينما تتوغل المرأة داخلها، بعد أن فتحت لنفسها دربًا فسيحًا من الواضح أنها تعرفه جيدًا، تتمهل عند الانعطافات  المميزة،  والواجهات الجميلة، حتى صعدت معهما إلى العمارة التي صعدا إليها منذ ساعة واحدة، وتسللت معهما إلى الشقة محكمة الستائر، وبدأت تتابعهما في الخمسين دقيقة التي قضياها حذرين من تخطي التوقيت الممنوح لهما أو تخطي صوتهما عتبة الشقة. 

أخذت ابتسامة المرأة  تتوسع وتحتضنهما بحدب احتفالي لا يخلو من أسى تجاه بهجتهما الكتيمة التي لم تجد صوتًا يضاهي قدرها.  أنِست لمياء لنظرة المرأة، ولم تعد تفكر بالغيرة مطلقًا، بادلتها نظرة امتنان  على هذا العطف، لكن خجلاً من عريها الذي تراه المرأة  جعل نهير العرق الهابط على ظهرها يتسلل من تحت كمر البنطلون الجينز الحابك على الخصر، ويبلل سروالها الذي لم يزل رطبًا بعد حمَّام لم تتنشف منه جيدًا. 

لا تقوى لمياء على العري الكامل، إلا تحت ملاءة. واليوم، رغم موجة الرطوبة التي ضربت المدينة بعد الغروب لم يكن بوسعهما تشغيل مكيف يلفت النظر إلى وجودهما، ولا كان بمقدورها أن تتخلى عن الغطاء، والنتيجة أنها كانت تنزلق فوقه كسمكة تتعثر في ماء ضحل. شعرت أن السيدة رأت ذلك البلل، فغمرها مجددًا.

حاولت أن تغلق عينيها في وجه المرأة، لكنهما ظلتا مفتوحتين رغمًا عنها، وأحست أن دفاعاتها مكشوفة أمام هجوم الأخرى، وأنها مسلوبة القوى ومرتبكة في مواجهتها. لم تبد لمياء ارتياحًا للغة الحرب التي فكرت بها وصفًا لإحساسها بالأخرى. تقتضي الدقة القول بأنها تشعر بمواجهة مع ضيفة فاجأتها بالزيارة في وقت غير مناسب، فلا هي تقوى على ردها، ولا هي تعرف كيف تحسن استقبالها.  

مدَّت بصرها تستطلع العربة، هروبًا من حرج التحديق المتبادل؛ فاصطدمت نظرتها بعيون مكحولة ونظارات تلتمع من تحت النُقُب في البقعة السوداء. لم تتوقع أن عيونهن لم تزل مصوبة على رفيقها، ولم تتبين  شيئًا من ثرثراتهن التي تصلها مدعوكة تحت  صلصلة العجلات ونداءات بائع مناديل ونقرات المحصل بصندوقه على  قوائم العربة.

أعادت التحديق في عيني الأخرى المستقرتين في الدهشة، لا تعرف لماذا شعرت في عمقهما أن المرأة ترى الآن، ذلك الشيء الذي فعلته منذ قليل للمرة الأولى ولم تكن تتصور أبدًا أنها تستطيعه، كانت مصدومة أصلاً عندما سألتها إحدى صديقاتها ذات مرة إن كانت قد جرَّبت ذلك الشيء، وخطر ببالها الآن أنها تستطيع أن تعترف لصديقتها بانتصار: Yes!. 

نعم! يمكنها أن تعترف لصديقتها، ليس لهذه المرأة بالطبع. لكن المرأة لا تنتظر اعترافًا؛ إذ تتأملها بيقين من رأى، حتى جعلت جلدها يتحرك مجددًا بالألم اللذيذ مثل حية تتخلص من جلدها القديم الذي لم يمت بالكامل، وجعلت سيول العرق تنبع من كل حتة في جسمها.

حاولت أن تهجم على المرأة. بحب وليس بأية مشاعر سلبية. أخذت نفسًا عميقًا من الهواء المشبع بالرطوبة، وحدَّقت بها أكثر فأكثر. 

رأت لمياء أن موضة فستان المرأة تعود إلى ثلاثين عامًا خلت. أخذت تفكر بسبب اختلاف درجة لونه عن لون بلوزتها. هل كانت له تلك الدرجة المخففة من البداية أم أن لونه بهت بسبب البِلى؟ هل يمكن أن تكون لي هيئتها الحسنة هذه  بعد عشرين عامًا وأستقل ذات الترام وأحدب مثلها على حبيبين ترفضهما العربة؟ كيف سيكون لون بلوزتي هذه؟ عاودت التوغل إلى أبعد أعماق عيني المرأة في محاولة مستميتة لفتح زقاق تنفذ منه إلى داخلها.

مع تزايد سرعة الترام إلى الحد الأقصى الذي يبلغه في المنطقة الوسط بين المحطتين، بدت العربة طائشة مثل أرجوحة تعلو وتهبط بعنف فوق سكتها الحديدية. تشبثت يدا لمياء بالقائم، بينما تشبثت عيناها بعيني السيدة، مع كل هزّة قوية تحاول القفز إلى ماضيها،  تحاول أن تتخيل شكل حياتها عندما كانت في الخامسة والأربعين، ثم تتقدم إلى حاضرها: بمن ستلتقي الليلة عندما تغادر هذا الترام؟ هل هناك رجل ينتظرها؟ كيف يكون شكله؟ فارع وخجول العينين؟ مُسعدها إلى الدرجة التي جعلتها منطلقة وصريحة ومستعدة لاحتضان سعادات الآخرين هكذا؟ 

لا تعرف العطف إلا المرأة السعيدة في الحب. هكذا قال أحدهم، ولمياء لا تعرف مدى صدق هذه المقولة، وها هي تحاول أن ترى ما بعيني المرأة لكنها ليست بارعة جدًا، وهذا الاهتزاز يشوشها حتى تصورت للحظة أن المرأة التي تقف قبالتها ليست سوى صو رتها نفسها منعكسة على زجاج النافذة. لكن كيف؟ ها هي أمامها، تتشبث مثلها بقائم الاستانلس وفوق أيديهما تستقر قبضتا الرجل.

أخذ الاهتزاز  يتناقص مع تناقص السرعة إيذانًا باقتراب المحطة، وها هي المرأة واقفة أمامها، حقيقية للغاية، تحتضنهما معًا، ثم ما لبثت أن أوقفت نظرتها  على أصابع الرجل تحت سطوة انتباه مفاجئ، تبعتها عينا لمياء تحاول تطويق أصابع رفيقها التي بدت عارية تمامًا ومبهجة. أحست لمياء بموجة جديدة من العرق تغمرها، وقد استعادت إحساسها بالحركة المتقابلة ليديه على جنبيها. من إبطيها حتى قُرب الركبتين تحت عصف الماء، حيث يحلو  له أن يتوهم أن ضغطة يديه على جسمها في كل استحمام هي التي تُجسِّمها هبوطًا من العريض إلى النحيف، فالعريض، فالنحيف، ثم الصعود مجددًا. 

منذ عامين فقط، لم يكن بمقدورها أن تتصور كيف يمكن أن تستحم مع رجل، لكنه اقتحم عليها حمامها ذات مرة فأحبت ذلك جدًا ولم تصارح به مخلوقًا قبل أن  تقفز إلى هذه العربة بالذات وتقف مكشوفة أمام هذه المرأة.

تناقصت السرعة للغاية، وبدأت جلبة الكوابح فارتفعت موجة الثرثرة في البقعة السوداء،  حتى صارت عاصفة من التلويحات بالأيدي تطالب الرجل بالمغادرة. غارقًا في الحرج طوال الوقت لم يكن ينتظر أن يطردنه. كان قد استدار بالفعل، وبمجرد أن انفتح الباب قفز إلى الرصيف. وانطلق صوت المرأة  تستحث لمياء بلهفة: 

ـ وراءه،لاتتركيه.

__________________

قصة جديدة